مفردات خارج اللغة!
حورية المكلي
الإعْلَامُ العربيُّ المرئيُّ منه ـخَاصَّــةـ مسيّسٌ تسييساً حقيراً وخطيراً، في إفساد الذوق العربي، بل وَتمييع رأيه العام والخاص وفق أجندات مُخَطّط لها سلفاً، من تلك الأجندات: تسمية الأشياء بغير مسمياتها، أَوْ بمعنى أصح، استخدام الألفاظ في غير معناها؛ لخدمة غَرَضٍ سياسي مَقيتٍ.
فهذا فيه إجحافٌ في حق اللغة، بل فيه تهميشٌ للذوق العربي فيما يخُصُّ المفردات لغته المنوطة بالوطن وَالوطنية، وبالكرامة والحرية والاستقلال، بل وفي كُلّ ما يخُصُّ الإنْسَانية جمعاء.
ربما استطاعَ الإعْلَامُ تمريرَ المدلولات المغلوطة بالضد لتلك المفردات على ذائقة البسطاء من العامة، لكن لا يمكن أن تمُرَّ باللُّغويين وَالأدباء والمثقفين من النخبة العربية بنفس المدلول، لكنَّ الجُبنَ والخنوعَ بعدَ بيع الرأي والقلم، يلزمُ الكثيرَ من النخبويين العرب في فهم تلك المفردات كيفما يشاء الإعْلَامُ أن يحدِّدَه ويقدمه، دون أن ينبسَ أحدُهم ببنت شفة.
من تلك المفردات “الكرامة” بات الباحثُ عنها والساعي إليها رجلاً مؤدلجاً دينياً، وأن سقفَ القبيلة الرجعية عالٍ عنده، وَبأنه يتحدثُ عنها وفق إثنية وعِرْقية سُلالية متخلفة حتى صار مدلولُ الكرامة عاراً وسُبّةً، فصاحبُها لا يرتقي إلى الانفتاح على العالم والقبول بالآخر؛ ولأجل أن يقبلَ بك الآخرُ لا بد أن تتنازَلَ عن كرامتك وتقبَلَ بالمساومة في دينك وَوطنك وعِرْضِك، فالكرامةُ معناها قد اندثر وتلاشى أمام هذا الزخم من العولمة.
ومن تلك المفردات “المقاوَمَة” في قضيتنا نحن اليمنيين، فمدلولُها العكسُ تماماً، فهي تدُلُّ على مقاومة المحتل لأصحاب الأرض وأبناء الوطن في وطنهم، يقولون: جيش “المقاومة” الذي هو عبارة عن جيش أجنبي مرتزِق مأجور جاؤوا به من كُلّ زنزانة وسجن وأحداثية، ومن كُلّ مصحة نفسية، من كُلّ الأرض قاطبةً يساندُه بعضُ أصحاب البلاد المنتفعين بأجور زهيدة في احتلال اليمن الحبيب، هؤلاء يسميهم الإعْلَامُ بجيش “المقاومة”.
يُطرَحُ السؤالُ نفسُه بطريقة بديهية دون تدخل العقل والعاطفة: مَن هي “المقاومة”؟ ومن يقاوم من؟؟!!، المحتل الأجنبي يسمونه “مقاومة”؟! ويقاوم مَن؟ أَأَهل الأرض على وطنهم؟! أيُّ عجبٍ هذا الباعث على الاشمئزاز؟! وَأي منطقٍ يقنع العقل بما يحدث ويقال؟!
ومن تلك المفردات أرض “محرّرة” يقولون في الإعْلَام بأن الأراضي التي سقطت في يد المحتل الأجنبي المكون من دول تحالف الشر، بأنها أرض محرَّرة، ممَّن محررة؟ أَمِن أهل الوطن وأصحاب البلاد؟! الأجنبي جاء يحرر الوطن من أهله وأصحابه وملاكه؛ ليحتله احتلالاً عسكرياً وسياسياً وإنْسَانياً؟ هذا هو مدلول أرض “المحرَّرة”!!
ومن بين تلك المفردات “الانقلابيون” وَ”المليشيات” هم أهل البلاد وأصحاب الوطن الذين يناهضون العدوان، الذين يبحثون عن سلام دون استسلام، الذين أعادوا للوطن هيبتَه وكرامتَه.. هكذا هي المدلولات وفق سياسة إعْلَامنا المرتهن لأمريكا وَإسرائيل.
لكن، وهل مثل هذه المدلولات في استنطاق معاني هذه المفردات داخل سياقاتها السياسية والعسكرية واللاإنْسَانية، من الممكن أن تمرَّ على النخبويين بمعناها المفتعل هذا؟!
هل سيأتي زمانٌ نحترمُ فيه عقولَنا ونتحرَّرُ من التبعية لقوى الاستكبار حتى في غطرستها على لغتنا؟ هل نستطيع أن نناهِضَ هذه السياسة المقيتة في قتل مدلولات لغتنا بتحميل مفرداتها معان معجمية وَتركيبية مغلوطة ومقلوبة بالضدّ؟
قال الشاعر المصري/ أحمد بخيت، في قصيدته (الحسين):
يأتي زمانٌ كُلّ شيءٍ ضده *** الليل مشمسٌ والظهيرةُ تُقمِرُ
يأتي زمانٌ لا زمانَ له *** إلا رجال الله وهي تبشرُ.
نعم، أعتقد بقوة المنطق ومنطق القوة: أن هؤلاء هم رجال الله من أنصاره في اليمن من سيؤدب تلك الوسائل الإعْلَامية التي استحمرت واستبغلت عَقْلَ المواطن العربي البسيط كفريق أول بالكذب عليه، والفريق الثاني هو النخبوي الذي تم شراءُ عقله وقلمه بثمن بخس، سيؤدّبهم بإعطاء كُلّ شيء حقه في كُلّ صعيد إنْسَاني حتى في طريقة استخدامها لمفردات اللغة كما أدبناهم عسكرياً، سنؤدبهم سياسياً وإنْسَانياً، ولُغوياً كذلك.