ذاتُ السَّلالِم!
مصباح الهمداني
شاهَدتُ مؤخرًا، مشاهِدَ حيَّةً لاقتحامِ رجَال الرجال لموقِع الضبعة في نجرانْ..
مشاهِدُ تنقبضُ لها القلوبُ، وتقشعرُّ لها الأبدان، وتهتزُّ لهولها الجبال، لكن اليمنيين فعلوها، سطَّروها، جعلوها ملاحِمَ سيتذكَّرها أحفادُ أحفاد الأحفاد، إنها دروسٌ في ميادين المَعارِك يتَحيَّر الفِكرِ عن وصفِها..
لقَدْ قُلتُ يومًا بأن جبهاتِ ما وراء الحدود بالنسبة للجيش السعودي والجيوش المُستأجرة يُعتبر “فيتنام أُخرى” وبالفِعلِ فقد احتارَ الأمريكي كيفَ يُساعِد مملكة قرن الشيطان، وقد كانَ آخرَ مُقترحْ اقترحه القائد الأمريكي الجنرال(جوزيف فوتيل) للجيش السعودي هو طريقة (الموقَدْ) واختصارها أن يوضعَ الجنود السعاودة في موقعٍ أشبه بالموقد وليس له فتحة إلا باتجاه اليَمَنْ، وقد كتبتُ بالتفصيل عن ذلكَ في حِينه..
وحينَ فشَلتْ طريقةُ الموقَدْ؛ لجأ الأمريكي إلى خطةٍ جديدة لحمايةِ الجنود السعاودة وضمانِ عدمِ هروبِهم وهي (المواقِع المُعلَّقة المُحصَّنة)، وتتلخَّص في أن يوضع الجنود السعاودة في مواقِع لا يستطيع أحدٌ الوصول إليها، بعدَ أن نحَتوهَا نحتًا بالآلاتِ المتخصصة، ولا يُمكِنُ الوصول إليها إلا بالطائرات، خاصَّةً من جهةِ اليمن..
والحديث اليومَ عن موقِع الضبعة، وهذا الموقِعْ تمَّ اقتحامه عدة مرات، وتمَّ قتلْ وإحراق العشرات من الأطقُم والمدرعات في اقتحاماتٍ سابقة، وبالطريقةِ الفيتنامية، (اقتحام، جندلَة، أسر، غنائِم، إحراق، انسحاب)، اليوم وصَلَ اليمانيون الأقوياء الأشداء، أولي البأس والقوة؛ ليتفاجأوا بأن الجبالَ قد قُدَّتْ وقُطِّعت وكأنها قطعٌ من اللحم، قطَّعها جزارٌ ماهِر، التفوا حول الجبلِ كنمورٍ مترقبة، وأسودٍ متوثبة؛ إلاَّ أن الصعود أمرٌ مستحيل، ومن يحاول التسلُّق سيسقط بالتأكيد، وسيتمزق إلى أشلاء، في تلكَ الجبال المقصوصة بدقَّة وإتقان..
أخذَ القائِدُ يُفكِّرُ ويفكر، ويستثيرُ جميع مرافقيه أن يعتصروا الأفكار للخروجِ بحلٍّ لهذه التقنية، أَوْ بالأصح؛ الخديعة الأمريكية السعودية الجديدة، وجاءتِ الحكمة اليمانية، لتمتزجَ بالبأسِ والقوةِ اليمانية، ونادى قائدُ الجبهة وقال:
-أحضروا السلالِم..
ابتسمَ الجميع، ابتسامةِ الثقة، ورفعوا أكفهم نحوَ السماء قائلين ” اللهمَ يسِّر وسدِّدْ ” وكان اللهُ معهم، وكان الإعدادُ مُرافقهم، وكانَ الإقدامُ أمامَهم، وكانَ الذِّكرُ والتسبيحُ حديثهم، وكانَ الدُّعاء همسهم..
رافقتهم السلالِم الطويلة، لكنها بحضرتهم انكمشَتْ، وصمتَتْ، وهي تلامِسُ أكفَّهُم الطاهرة، وتُفاخِرُ سلالِمَ العالم بأنها ستُقبِّلُ أقدام أطهَر وأشرَف وأشجع وأقوى وأتقى وأحكَم أقدام مقاتلين في هذا العالمِ الصامتِ الجبانْ..
تحرَّك الجميع في وضح النَّهار، وما إن وصلوا أسفلَ تلكَ الجبالِ المقصوصة، حتى سجدَتْ ألسنتهم شُكرًا لله، على سلامةِ الوصول؟، وعلى عمَى العدو وطيرانه وكاميراته، تمددت السلالمُ بعد انكماشها، وتسلقَ عليها المجاهدون الواحِدَ تلوَ الآخر،
تقدموا، توزَّعوا، وكانوا أقلَّ من العشرة، وأَكْثَـرَ من الخمسة، كلُّ واحدٍ يعرفُ مكانه، ويعرف مهمته، ويعرفُ بوصلته، وكأنهم نسيمٌ لا صوتَ لهُ ولا إثارة..
بدأت أصواتُ الأعداء تصلُ أسماعهم، سودانيٌ يُمسِكُ برشاشٍ كبير أَوْ مدفعٍ حديث، يُحركُه يمنةً ويسرة، وكأنه يترقَّبُ ظهورَ دبابةٍ من الجبالِ المُقابلة، ويُغني أغنية الغربة الشهيرة، ويقول
“اشتقتِ لأطفال بلدنا، اشتقت للسودان وناسو، ياما في الغربه المزلة، ياما فيها كُتَار تِقاسُوا، اشتقت للونسدة البريدة، واشتقت لاخواني الصغارُ، واشتقت لأمي وكلامَا، اشتقتَ للسودان وناسوا ” ويجبه سعودي وهو يُقلِّبُ رشاشه الإسرائيلي بين يديه، قائلًا: ” استمتِع يا زول بمكافأة الملك سلمان 5000 ريال” فيرُد عليه السوداني” يازول دا الخمسة آلاف ليكوم إنتوا إحنا لينا زبعمية بس”.
وتتحرَّكُ شِفاهُ أحدُ المهاجمين بقوله تعالى “وما رميتَ إذ رميتَ ولكن الله رمى” وتنطلقُ معها أول رصاصة، فتستقرُّ في جبهةِ الزول السوداني، وتتابعُ الصرخات والرصاصات، وتتطايرُ رؤوسُ السعاودة، ويهربُ بعضهُم من موقعٍ إلى موقع، ولا يجدونَ أمامَهم سوى القفزُ من الجبالِ الشاهقةِ التي قصوها لتحميهم، لكنَّ أقدامَ أولي البأسِ كانت لأَكْثَـرهم أسرع، ورصاصُ المُحاربين اليمنيين كانت أصوَبْ، وصوَّبتْ طريقهم إلى السقوطِ في أماكنهم، أَوْ رفعِ أيديهم بالاستسلام،
لقد كانتْ أصواتُ صراخِ وبكاءِ وولولةِ الجنود السعاودة ومن معهم من مرتزقةِ العالم تملأُ الجبال، ويترددُ صداها في الهواتفِ اللاسلكية المفتوحة، حتى وصَلت إلى سربِ طائراتِ الأباتشي، والذي وقفَ متَفرجًا، عاجزًا عن فِعل شيئ، وهو يرى الأسودَ قد انحشرَت بين القطيع، والدماء تتطايرُ من كُلّ حجرةٍ مُحصَّنة، ومن كُلّ موقعٍ مُشيَّدْ..
ماتَ خوفًا من الجنودِ السعاودة من مات، وماتَ ترديًا من هرَبْ، وسقطَ مضرجًا بدمائه من وضعَ عينيه في عيني أسدٍ مُهاجِم، كانت مذبحة السعاودة في عقرِ دارهم، في نجران، في الضبعة، مذبحةً تأريخية، ستدخُل التأريخُ من أوسعِ الأبواب، وهي تشفي غليلَ كُلّ طفلٍ يتيم، وكل بيتٍ مهدم، وكل طريقٍ مقطوع، وكل بئرٍ مدفون، وكل مزرعةٍ محروقة، وكل بنيةٍ تحتيةٍ مخربة..
ذاتُ السلالِم معركةٌ يمانيةٌ خالصة، واختراعٌ يمني فريد، لا يقلُّ بأسًا ولا تنكيلًا من قناصات وصواريخ ومنظومات مُخترعة جديدة..
ذاتُ السلالِم، ومنظومة الدفاع الجوي والبحري، وصواريخ بركان وزلزال، جعلت من العدو السعوأمريكي يقصفُ الأبرياء في صنعاء من أعلى السماء، بعشراتِ الغارات، بقنابلٍ عنقودية؛ لعلَّهُ يواري سوءته التي كشفَها اليمانيون الأبطال، جوًا وبحرًا، وبرًا،
وأتوه في عقر داره، وتغَلَّبوا على آخرَ ما تفتَّقَ به عقل الأمريكي لحمايته ومساعدته، وبعدَ تأمينه وتحصينه، وصلوا إليه رجال الرجال بالسلالِمْ.