مبرّرات العداء لدولة العدو لن تنتفي إلا بزوالها
وجدي المصري
برزت إلى الواجهة الإعْلَامية في لبنان مؤخراً مسألة التطبيع مع العدو «الإسرائيلي» من خلال تصريحات بعض المسؤولين من جهة، ومواقفُ وزراء إنْ دلّت إنما تدلّ عن تقصُّد تمرير بعض الأفكار التي يعتبرونها عادية، فيما هي تشكّل دسّاً للسمّ الثقافي في عقول أجيالنا الناشئة.
وجاء إرباكُ السلطة حول مسألة حظر فيلمين سينمائيين ثم السماح بعرضهما ليُظهر للعلن مدى الانقسام الفكري بين أبناء المتّحد الواحد.
وهنا جاء دور الإعْلَام على مختلف وجوهه ليؤكد هذا الانقسام ذي الجذور السياسية المرتبطة بمدى الوعي الوطني لدى شرائح متحدنا اللبناني الذي استفاد من الزحفطة لما يُسمّى بالدول العربية باتجاه دولة الاحتلال ليكشف عن جبينه في مسعى واحد منه لبدء مدّ جسور التعامل مع العدو، مستنداً إلى مبدأَي حرية المعتقد وحريّة إبداء الرأي اللتين يكفلهما الدستور.
وبدلاً عن أن تأخذ السلطة التنفيذية دورها المباشر بوضع الأمور في نصابها القانوني نجد أنّها بمواقف بعض وزرائها تتماهى مع الفئة الساعية للتطبيع، حتى وإنْ كانت تقوم بما تقوم به عن حسن نيّة ودون إدراك إلى أين يمكن أن تؤدّيَ هذه المواقف المستندة إلى مبدأ الحرية.
لقد تناسى هؤلاء أنّ الحريّة لم تكن يوماً مطلقة، ولا مزاجية، ولا متفلّتة، بل هي مقيّدة بقوانين ترعاها كي لا تتحوّل فوضى على يد مَن يُحسنون جيّداً استغلال المواقف وتوجيهها لخدمة مصالح محدّدة، وهي يجب أن تكون دائماً تحت سقف القانون.
بعدَ قيامِ دولة «إسرائيل» أنشئ في جامعة الدول العربية مكتبُ مقاطعة «إسرائيل» والتزمت به الدولُ الأعضاء كلّها، وكان فعّالاً إلى حدٍّ كبير، وكان مصدر إزعاج لدولة الاحتلال. وإذا باتفاقية الاستسلام المصرية على يد السادات تدقّ أول خازوق في جسم هذا المكتب، ومنذ ذلك الحين ساهمت بعض الدول العربية، والتي أنشأت هذا المكتب، بدقّ المزيد من الخوازيق، فكانت معاهدة السلام الأردنية مع دولة الاحتلال وما تبعها من بدء عمليات التطبيع بين بعض دول الخليج والمغرب العربي مع دولة الاحتلال، بداية قوية لنشر ثقافة الاستسلام بوجه ثقافة المقاومة.
لقد عمل الصهاينةُ بصبر وجَلَدٍ وعلى مدى سنوات؛ للوصول إلى هذه النتيجة، وأكملوا عملَهم وصرفوا ملايين الدولارات لتشويه سُمعة المقاومة من جهة ولحَرْف بوصلة الصراع عن اتجاهها الصحيح.. فبدلاً عن أن تستمرّ الدول المسمّاة عربية على موقفها المتخذ في قمة الخرطوم عام 1967 والذي أعلنت فيه اللاءات الثلاث: لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض… فتح لها السادات الباب مشرعاً للتهرّب من هذا الالتزام الوطني الأخلاقي، فبدأت تباعاً تتهاوى أمام تصلّب دولة الاحتلال.
في المتّحد اللبناني تناقُض السلطة نفسها، فهي من جهة لا تزالُ تلقّي القبض على بعض المتعاملين مع دولة الاحتلال انطلاقاً من القوانين المرعية الإجراء التي تحدّد هذه الدولة عدوّة يمنع التعامل معها على جميع المستويات ويمنع الدخول إليها، وهي من ناحية أخرى تعتبر أحد رؤساء الجمهورية الذي نصّبته دولة الاحتلال العدوة شهيداً إرضاءً لفريق جاهر بتعامله مع العدو في فترة ما، ولا يزال يجاهِرُ بعدم ندمه على ما فعل، بل أكثر من ذلك هو يسعى الآن، كما بعض الدول العربية، إلى التطبيع وصولاً للاعتراف.
وهذه السلطة تتغاضى عن مواقف بعض وزرائها، على سبيل المثال وزير التربية، المؤيد، من مسابقة في إحدى المدارس الخَاصَّة ورد فيها أنّ «إسرائيل» تحدّ لبنان جنوباً مموّهة هدفها بذكر اسم فلسطين إلى جانب «إسرائيل»، ولا تجد حرجاً من عدم الالتزام بقرار مقاطعة كلّ الشركات والمؤسسات والأشخاص الذين يدعمون «إسرائيل»، راكبة موجة الحرية وحق المواطن في إبداء رأيه، منساقة وراء بعض الجماعات المعروفة التوجّه والقصد والتي بدورها تضرب على وتر الحريّة وتهاجم فريقاً واسعاً من اللبنانيين يحاول تسديد البوصلة والحدّ من انحرافها نحو التطبيع الكامل.
على هذه السلطة أن تحسمَ أمرَها، فإمّا أنّها مع بدء عملية التطبيع التي بدأت خيوطها تتضح انطلاقاً من المسألة الثقافية وهي الأخطر بنظري؛ لأنّنا بدأنا نسمع أصواتاً تقول: شبعنا، قرفنا، ما بقى بدنا حرب إلى آخر تلك المعزوفة متناسين بأنّنا لسنا مَن أشعل الحرب، أو مَن احتلّ أرض الآخرين وشرّدهم ودمّر منازلهم وقتلهم، ولسنا مَن لم يزل يخلق المنظمات الإرهابية ويعيث قتلاً ودماراً وتشريداً على كامل أرضنا القومية، ولسنا مَن وقف بوجه الشرعية الدولية، ولسنا مَن لم يلتزم بكلّ قرارات هذه الشرعية، ولسنا مَن لم يزل يخطط لزيادة مساحة دولة احتلال على حساب الدول المحيطة انطلاقاً من أوهام دينية لا يقرّها قانون، ولسنا الدولة التي، وحتى الآن، لم تضمّن دستورها الحدود النهائية؛ لأنّها ترغب باحتلال المزيد من الأرض.
لهذه الأصوات نقول، كما نقول للسلطة: احزمي أمرك، وافرضي القوانينَ المرعيَّة واسكتي الأصوات النشاز التي تطالب الدولة بأن تكون هي صاحبة القرار بالسلم والحرب، وأن يكون السلاح بيدها فقط، وهذه مطالب محقة لو كانت لنا دولة قوية قادرة على مجابهة العدو، وفي الوقت ذاته تهاجم الدولة وتضغط عليها إنْ هي طبّقت قوانين مقاطعة العدو.
إنّ هذا التشرذُمَ والانقسام حول مسألة وطنية بامتياز هي مسؤولية الدولة، وعليها فقط يقع واجب إنهاء هذه الوضعية الشاذة، ولا يكون ذلك إلاّ بالتأكيد الحازم على أنّ «إسرائيل» هي دولة احتلال عدوة، وأنّ أية محاولات للتساهل بهذه المسلّمة ليست سوى بداية عملية واضحة للتطبيع. هناك مؤسسات عديدة تعمل منذ سنوات تحت عنوان ثقافة السلام وضرورة تقبّل الآخر، ولقد نجحت إلى حدّ ما بإدخال هذه المفاهيم ليس فقط إلى عقول الأجيال الجديدة، بل إلى مواقف بعض المسؤولين الذين بدأوا بالانسياق وراء هذه الثقافة التي تبدو للوهلة الأولى إنسانية الأهداف، لكنّها في الواقع صهيونية تحاول خدمة دولة الاحتلال وتحقيقها بالثقافة ما عجزت عنه بالحرب، وهذا ما سيؤدّي إلى مزيد من الانفتاح باسم الحرية وباسم رفع اسم لبنان عبر تسمية أحد الأفلام اللبنانية لنيل جائزة الأوسكار التي نعلم جميعاً أنّ اللوبي اليهودي يتحكّم بها.
كفانا ذراً للرماد في العيون ودفناً لرؤوسنا في الرمال، فالعدو يجب أن يبقى عدواً إلى أن تنتفي مبرّرات العداء، وهذه لن تنتفيَ إلاّ بزوال دولة الاحتلال ولو طال الزمن.