القائِدُ في حديثِ مُجاهِد!
د. مصباح الهمداني
بعدَ انتهاء كلمةِ قائِدِ الثَّورة، أطفأتُ جهاز التلفاز، وسادَ الصمتُ والتأمُّلُ، وقبلَ أن أُمسكَ بالقلَم، التفتُّ إلى أحدِ كبارِ المُجاهدين، ممَّنْ شارَكَ في كثيرٍ من المعارِكْ، وسُجِنَ وعُذِّبَ.. وسألتُهُ:
– ماذا تقولُ بعدَ كلمة السيد؟.
أجابني وما تزال تسكن في عينيه فرحةٌ غامرة:
– لماذا تسألني.. هلْ ستكتُب ما أقول؟.
أجبتُهُ أعِدُكَ بِذلك..
ابتسم وقال:
– لو أردتَ أن أُجمِلَ لكَ كلمة القائد لفَعلت، فقد تحدَّثَ عن الشهيد والشهادة، وبأنها عطاءٌ، ومكافأةٌ إلهية، وتحدَّثَ عن الوعي وما يُريدُه الاحتلالُ من البعضِ بأن يكونوا أدواتٍ بيده، ووجّه رسالةً إلى الشعب السوداني العزيز بأن ينصحوا حكومتَهم بإيقافِ هذا العبث، وقتلِ الشعبِ اليمني، وأشادَ بالقبيلة وأنها تعني الرجولة والبطولة، والذودَ عن البلاد، وتحدَّث عما يحدث بعدن على أنه لعبة بين قوى العدوان، وأنّ الخونة في عدن قد قدموا دليلاً إضافيًا على عمالتهم وخدمتهم للعدوان، وشكَر رئيس الجمهورية والمؤتمريين الأحرار، وحثَّ على مساعدة ورعاية أسر الشهداء، وحث الجهات العسكرية بمنع وحيد الأسرة من المشاركة، وحث وزارة الدفاع أن تتحَــرّك في جميع المحافظات، ووجّه بعدم إطلاق النار في تشييع الشهداء نهائيًّا، وبيَّن أن الإمارات والسعودية تقف مع جبهة أمريكا، وأكد على الموقف الثابت والمبدئي مع فلسطين، وذكَّر الجميعَ بأننا إخوةٌ لكل المسلمين إلا من أبى..
ابتسمتُ وقاطعته قائلاً:
– أرى في عينيك سعادةً، وفي وجهِكَ إشراقةً، فما شُعورُكَ حين رأيتَ واستمعتَ إلى القائِد؟
– لا أبالُغُ إنْ قلتُ لكَ بأنَّ شوقي لرؤيته، شوقَ الضرير لرؤية البشر، شوقَ الأمِّ لولدها الوحيد الغائب، شوقَ الشهيدِ للعودةِ إلى الجهادِ ثانية.. شوق الـ…
قاطعتهُ قائلاً:
– وهلِ انطفأ الشوقُ الآن؟
– ليس الأمرُ بهذهِ البساطة، ولكني لا أخفيكَ أنني حينَ أراه، أرى نورَ الإيمانِ في جبينه، ورايةَ النصرِ في صفحةِ يده، وحكمة الكَرَّار في بيانه، ونبعُ اليقين في تبيانِه، وينابيعُ الطُّهرِ في قسماتِ وجهه، وراياتُ العِزةِ في حنايا ابتسامته…
أشرتُ إليه أن يتوقَّفَ قليلاً، لكي أرسِلَ رسالةً للعالمِ أجمَع وأقول:
– لن تجدوا فوقَ هذه الأرض، رجُلاً في الثلاثين من عمره، يُحارَبُ ويُحارِبُ منذُ عقود، ويتنقَّلُ من وادٍ إلى جبل، ومن سهلٍ إلى تلٍّ، وهو بهذه الحكمة والفصاحة والمعرفة والقيادة والنباهة والفقه والصدق والثقة..
تلفتوا أيها الفُتاتْ وانظروا إلى كبار المُرتزقة، كيف يلوكونَ الكلمات كما تلوكُ (أم نافعٍ) فمها، وذلكَ حين يقرأون من ورقٍ كُتبتْ كلماته بالحجمِ الكبير..
تأملوا كذلكَ أماكنهُم فهذا في فندق، وذاكَ في مرقص، وثالثٌ غارقٌ في مواعدةِ الفتيات، ورابعٌ في ملهىً، وخامسٌ في مطعم، وسادسٌ صار سمسارَ عقار، وسابعٌ يخلعُ جنبيتَهُ ونعلَيه لكي يقُبَّلَ يدي الغازي أَوْ قدميه، وثامنٌ نخشى عليه أن يتدرَّبَ أمامَ الجنجويد.
تأملوا الفرقَ بين قائدٍ تعشقهُ القلوبُ، وتشرئبُّ له الأعناقُ، وتشتاق لكلمته الأسماع، وتفرحُ برؤيته الأنفس، وتنقادُ له الملايين؛ لأنهُ من جبالِ اليمنِ وترابه، ومِنْ جناتِ سبإ وأعمدةِ قتبان، ومِنْ شموخِ عطّان وعيبان، ومن إباءِ نقمٍ وهيلان.. رجلٌ لم يفِرْ ولم يهرُبْ ولم يجلِبْ إلى بلادهِ إيراني أَوْ روسي أَوْ صيني أَوْ ياباني.. بل اعتمدَ على شعبه، وقدَّمَ في سبيل قضيته خيرةَ أهله، وقضى نحبَه منهم مَن قضى، وينتظر منهم من ينتظِر، بل قالَ أمامَ الملايين من البشر بأنَّ رأسَهُ فداءٌ لوطنه؛ لهذا ستُهزمون وستذوقون وبالَ خيبتكم، وعمالتكم وارتزاقكم، إنْ لم تُبادِروا باحتضان يدِ السلامِ الممدودة، وتحقنوا دماءَ المُرتزقةِ الذينَ يسقطون بسببكم مُقابِلَ مزادٍ وصلَ سعرُ أرخصِهم إلى (300 ر. س) ويقُتلونَ يوميًا بسلاحِ أبطالِ الوطن إن تقدموا، أَوْ بسلاحِ أسيادهِم إن تراجعوا..
التفتُّ إلى الجبلِ الصنديد المُجاهِد وقلتُ له:
– أعتذرُ إليكَ فقد أضفتُ بعض الكلامِ إلى كلامِك.. ولدَيَّ سؤالٌ أخير أختمُ به.. هزَّ رأسهُ موافقًا، وابتسمَ مُرحبًا.. وسألته:
– ماذا تقولُ للسيدِ القائد هذه اللحظة؟
أخذَ نفسًا عميقًا.. وقال:
لا أجِدُ شيئًا يُعبِّرُ عما في نفسي إلا تلكَ الأبياتِ التي قالها الزبيري للإمام يحيى حميد الدين رحمه الله، وأنا أقولُها للقائدِ العلَم واعيًا لكل حَرْفٍ فيها، وأتنفسُ كُلّ كلمةٍ منها، وينبضُ قلبي بكلِّ معانيها وأقول:
نورُ النبوة من جبينك يلمعُ * والملك فيك إلى الرسالة ينزعُ
يكفيك أن المصطفى لك والدٌ * أفضت إليك به الفضائل أجمعُ
يكفيك أن الدينَ وهو مشردٌ * من سائر الأقطار نحوك يفزعُ
لا غروَ أن تحميَه فهو أمانةٌ * من جدكم في عرشِكم مستودعُ
من أين يأتيك العدوُّ وأنت في * أرضٍ تكاد صخورُها تتشيَّعُ
يا ابنَ النبوة أين نذهبُ عنكمُ * والغربُ منتظِرٌ لنا يتطلّعُ
تاللهِ لو حاد امرؤٌ عن أمرِكم * لم يأوه إلا “التفرنج” موضعُ
ما للعباد سواك إلا فتنة * عمياء أَوْ كفرٌ يضل ويصرعُ