المثقف العربي بين خدعة الحداثة والتضليل ضد أنصار الله
وليد الحسام
مؤسساتٌ ومنظماتٌ ثقافية ومجتمعية واسعة روّجت بشكل مكثَّف في العقود الزمنية الأخيرة للحداثة كفكرةٍ موجّهةٍ لما يسمى بالثقافة العصرية المقبولة عالمياً تحت شعار (عولمة الثقافة)، فكان ضحية ذلك التهريج هو المثقف العربي الذي أُغري به في زركشات النهضة أَوْ التطور البلاستيكي، وثمة مثقفون انخرطوا في دوامة الحداثة الكرتونية التي روّجت لها أنظمة مصنّفة بمراكز القوى العالمية، ولم يكن يدرك المثقفون أبعادَ ذلك، ومع الحروب التي شنّتها تلك الأنظمةُ المتحالفة على شعوبنا العربية انصدم كثيرٌ من المثقفين الحداثيين حين وجدوا رموزَهم (أدعياءَ الحداثة ) يؤيدون بشكل أَوْ بآخر حروبَ الأنظمة الفاشية ونتائجَها البشعة التي طالت الشعوب العربية، فلم يجد أولئك الحداثيون المغرَّرُ بهم إلا التقوقعَ في ذواتهم والاختباء خلف الصمت مترقبين انتهاء الأحداث ونتائج معادلاتها، وكأنهم اضطروا بدلاً عن الظهور بمواقف مشّرفة إلى التعامل مع الواقع بطريقة سياسية هزيلة وبرجماتية فجّة ورأوا في الصمت سياسة العَجَزَة المحتالين على الحقيقة والقيم بعد أن اكتشفوا أن القيمَ التي توهموها ليست إلا كذبة من صُنع سلطات وأنظمة متنفذة إقليمياً سعت عبر أجنداتها المؤجرة إلى صناعة واقع يتفق وأمزجة سياساتها.
كُلُّ التنظيرات التي سعت إلى المقاربة بين الوعي المجتمعي من جانب وثنائية الهوية والثقافة من جانب آخر ضاقت بها كواليسُ الأنظمة السياسية المُحرِّكة لما سُمّي بتيار الحداثة الذي ضاعت فيه الأصول والجذور الثقافية وذابت فيه ملامح ثقافة الارتباط بحضارات الأمم، ومع كُلّ ذلك التمييع باسم (المُثاقفة) فإن ثقافات شعوب العالم باختلاف أجناسه لم تمتزج لتُشكل إطاراً يجمع الثقافات في واجهة واحدة كما ظل يحلم أصحاب الحداثة الذين خدموا بذلك أنظمة عالمية من خلال تهيئة الواقع العالمي وإخضاعه كلياً لقرارات البيت الأبيض الأمريكي.
في اليمن ظهرت تجربةٌ فريدةٌ تتمثل في المسيرة القرآنية كأُنموذج للثقافة المحافظة على الهُوية والمتجاوزة بحداثة الفكر والتُّوجه والرؤية توقعات الحداثيين وتصوراتهم المستقبلية.
وبرأيي أن هذا الأنموذج هو الأقربُ والأنفع لحاجة كثير من الشعوب المظلومة أَوْ هو الثقافة التي يحتاجها من يقاومون الظلمَ ويرفضون الذل، وبالإضَافَة إلى حفاظ هذه المسيرة على جذور الهُوية الأيديولوجية فإنّ حداثةَ الرؤى المستقبلية التي قدّمها السيد حسين بن بدر الدين الحوثي لقيمة الإنسان لا تختزلُ الحياة والقِيَمَ الإنسانية في نظريات مجرَّدة لا تتصل بالواقع كما هي حال الحداثة، بل إنها تتجاوزُ ذلك التجريدَ إلى الواقعية التي تجسِّدُها التضحياتُ النابضة بروح الجهاد بمعناه القرآني، والمفعمة بِنَفَس الانتماء الوطني والقومي وتحقيق العدالة الإنسانية، وكذلك مقاومة الطغاة بالمواجهة باعتبارها وسيلةً لتحقيق الأهداف لا كما يفعل الحداثيون إزاء ذلك من مواقف تلاعبهم باللغة الوهمية والمفاهيم الفارغة، وكان من مظاهر وخصائص هذه التجربة اليمنية (المسيرة القرآنية) التي تحرك بها (أنصار الله) أنها حررت العقل من قيود الفرضيات التهويمية للحداثة التي صاغتها منظومات مشاريع الهيمنة الدولية لتحديد اتجاه التفكير.
التضحياتُ الكبيرة والعظيمة التي قدمتها المسيرة القرآنية من قبل ظهورها في الواجهة وحتى عندما فرضت وجودها وأَصْبَحت حاضرةً إقليمياً ودولياً منذ ثورة سبتمبر 2014م، كذلك التضحيات المرحلية خلال فترة مواجهة العدوان على اليمن.. كُلّ تلك التضحيات تؤكد ثبات أساسات هذا المشروع الثقافي وقيامه على قضايا كونية غير محصورة في حدود جغرافية أَوْ توجهات ضيقة حتى عند اقتراب هذا المشروع من الإدارة السياسية للبلاد فإنه لم يتوقف كما هو حال غيره بل استمر وما زال صاعداً في توجهاته نحو تحقيق العدالة الإنسانية عالمياً ومجابهة قوى تسعى إلى فرض الهيمنة، وفي الوقت ذاته فإن حضورَ (المسيرة) على الواقع تجاوز أحلام اليقظة لدى الواقعيين (أصحاب المدرسة الواقعية)، حيث اتجهت هذه المسيرة إلى الواقع وتغييره، وعلى الرغم من الحدود الجغرافية _ على أرض اليمن _ لإنجازاتها إلّا أن ثمة إقراراً دولياً مضمناً في تخوفاتهم يؤكد قدرتها على أن تتسع وتتجاوز الحدود الجغرافية، وقد رأى العالم قدرات المسيرة على أرض الواقع بشواهد تأريخية عبر القيادة والمجاهدين وتبنيها الثقافة الجهادية بمعانيها القرآنية ذات القيمة السامية في مواجهة الأعداء ميدانياً وثقافياً توعوياً وإعلامياً، وتقف في واجهة تحدِّي تحالفاتٍ عدوانية ضخمة ومواجهتها باقتدار، وكما استوعبت الأشكال السياسية في العمل الوطني كإدارة الدولة فهي كذلك تتبنى الدفاعَ عن القضايا العربية والإسلامية _ على رأسها قضية فلسطين _ بالتحرّك في اتجاه خيارات مقاومة العدو بكل الإمكانات وبناء الوعي لدى شرائح المجتمعات بعدالة هذه القضية وغيرها من قضايا الشعوب المظلومة.