جنون أمريكا!!
محمّد لواتي
جنّدت أميركا كُلَّ قوّاتها العسكريَّة لمواجهة الأطلال في بلاد الأفغان وبلاد العراق ودول أُخْرَى، وتبعها أراذلُ القوم من الأعراب، سقطت في الوحل وطلبت من إيران مساعدتها للخروج منه، في العراق، فهل أميركا بهذا الفعل دولة عظمى؟.. أم أنها بهذا الفعل مجرّد عين هاربة من الأشباح إلى بلدان منتجة للأشباح المؤمنة، كما يقول عنها التأريخ؟.
واضحٌ أَلَّا مجالَ للمقارنة بين مَن يمتلك القوّة ويستعملها في الظلم والظلام وبين مَن يمتلك الروح والعقيدة، ويسلك سُبُل التأريخ في ثنائية موحّدة، الحرية أَوْ المقاومة، وفق مسار الشهادة.. الاعتقاد الأميركي ومَن تحالف معه من الأوروبيين والأعراب، اعتقاد يقومُ على ازدواجية في الخطاب والفهم وعلى تناقض بين الأمل والألم.. أن البشرية – ربما- ولأول مرة في تأريخها تواجه من الداخل بأدوات هي في الأساس صنعت للرفاهية، واختزال المسافات، هذه الظاهرة نتاج تطوّر في الزمن، مثل ذلك التطوّر الحاصل في الآلة المُسخّرة لخدمة الإنْسَان، ومَن يدري قد تكون وسيلة أُخْرَى هي السبب في الانهزام الحضاري لأمّة جعلت من نفسها فوق كُلّ الاحتمالات، بما في ذلك احتمال البقاء كقوّة ضاربة وإلى الأبد، ناتج هذا الإيمان المبني على الخيال المطلق والبُعد عن الواقعية السياسية المُطلقة هو نتاج أقوام قال عنهم القرآن أنهم كانوا مفسدين في الأرض، وأنهم تعالوا علوّاً كبيراً عن الفهم والأخذ بسنن الحياة وظنّوا أنهم خالدون، فأخذتهم الصيحة فأَصْبَحوا نادمين، إن الأوهام هي جزء من التأريخ لا محالة ولكنها جزء سلبي لا يؤمّن للفرد أّي غطاء ولا يُعطيه أيّ فعل يمكن الاتكّاء عليه ساعة المواجهة.
بديهي أن الولايات المتحدة الأميركية وخَاصَّـة مع دونالد ترامب قد تجاوزت ظلال التأريخ وتوهّمت مع هذا التجاوز أنها قادرة على توجيه القارات الخمس باتجاه الجنون الذي تؤمن به، إن مَن سياستها الداخلية المبنية على اللبرالية المتوحّشة أَوْ من سياستها الخارجية القائمة على مبدأ الاستعباد للسياسات المُناهِضة لعدوانيّتها، ربما توهّمت كُلّ هذا التوهّم لطبيعة التأريخ الأميركي، الذي أسّس على مبدأ الإبادة الجماعية للشعوب، بداية من شعب الهنود الحمر، أَوْ ربما توهّمنا منها أن الآلة العسكرية التي تمتلكها بإمكانها إسقاط كُلّ حسابات البشر من واقع التأريخ وجغرافية الأحداث، غير أن هذا التوهّم، وإنْ بدا حقيقةً، لا يمكنه الإفلات من واقع الحال الحاصل فيه.
إن الواقع يقول: إن أميركا بما حدث لها مؤخراً في سوريا على وجه الخصوص، والشرق الأوسط على وجه العموم هي مثل بقيه دول العالم، وأن الادّعاء بالمُطلق في كُلّ شيء ادّعاء لا معنى له، بالنظر إلى قوّة الصين وروسيا الآن.
إذن اتجاهها باتجاه بلاد الأفغان والعراق وسوريا والتدمير الذي تقوم به اتجاه يعكس الأخطاء التأريخية الأميركية أكثر مما يعكس أخطاء الآخرين في فهم عقلية الإرهاب الأميركي، لقد اتجهت أميركا نحو فيتنام ذات مرة بحثاً عن الضوء وعن المستقبل، لكنها حصدت الملح في نهاية المطاف، وهي الآن تحصده من جديد بفعل الكراهية المُطلقة واللا محدودة لها وعلى مستوى القارات الخمس، ما هو أسوأ من الملح، وتصنع بالتالي اللاأمن واللا استقرار لها وللعالم أجمع، فهل يعني هذا أن نهاية أميركا حضارياً على وشك الحضور كما يؤكّد المفكّر الأميركي نعوم تشو مسكي..؟، أم يعني أن العالم على وشك التحوّل باتجاه الصراع الدائم واللا محدود بين الثابت والمُتغيّر، بين المجهول والمعلوم في عهد الرئيس ترامب؟.
الاثنان واردان والاثنان تحكمهما طبيعة واحدة وباتجاه واحد، طالما أن الأيام دول بين الناس، وأن الظلم لا استقرار لها، يقول روبرت مالي نائب رئيس مجموعة الأزمات الدولية غير الحكومية للسياسات ”في الوقت الذي يكون لديك فيه الكثير من مصادر التوتّر والكثير من التشابكات والكثير من الكوارث الإنْسَانية، يكون لديك أيضاً القليل من الدبلوماسية”، وما كان لترامب المقاول لا السياسي إلا أن يقلبَ كُلّ المفاهيم السياسية ويصنع من تغريداته كُلّ غابات الخيال الهوليوودي ليسكن فيها وكأنها العظمة التي لا تموت، وكان قراره بضمّ القدس عاصمة لإسرائيل بمثابة الحفرة التي تدفن فيها كُلّ النفايات السياسية، وأَصْبَح الداخل والخارج يتساءل عن أهدافه وما يريده بالتحديد لأميركا وللعالم“.
الصحفُ الغربيةُ تشيرُ إلى أنّ قرارَ ترامب يمكن أن يشكّل نهاية الجهود الأميركية لصوغ اتفاق سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وتؤكّد أنّ قرار ترامب سيعزل الولايات المتحدة. وهو ما تؤكّد عليه مجلةُ فورين بوليسي بقولها “بمعزل عن شبه الإجماع الدولي على معارضة ترامب من قِبَل الزعماء العرب والأوروبيين وغيرهم من زعماء العالم الذين حذّروا من العواقب الوخيمة لهذه الخطوة، جاء قراره لينقلب على 70 عاماً من السياسة الأميركية، مقوّضاً المعايير الدولية الأساسية التي حكمت عملية السلام لعقود”.
وتقول الواشنطن بوست: “إن خطوة ترامب بشأن القدس تنطوي على مخاطر كبيرة حيث إنها قد تقوّض السياسة الأميركية في الشرق الأوسط فضلاً عن آمال الأميركيين بلعب دور الوسيط في أية تسوية إسرائيلية فلسطينية، إضَافَة إلى إثارتها حالة من السخرية”، فيما تذهب نيويورك تايمز إلى القول “ترامب يبدو بمثابة “سانتا كلوز” لليهود بعد هذا القرار، أما صحيفة “لوموند” فترى “عزلة أميركية في ضوء هذا القرار”، والأكيد أنه حين تتآكل القناعة لدى أي شخص تبرز الانتهازية كمصدر مهم للقرار الفاحِش وتصير كُلّ أوراق الحقيقة كبئر معطّلة والقوّة كنفوذ وامتياز!!.. ومن سيئات التأريخ ألا يصنع صانع القرار من نفسه رجل التأريخ.