أحِنُّ لملامح أخي
د. أسماء الشهاري
كانَ هو وأصدقاؤه يتسلّقون الجبلَ، لكنه أنهكه التعبُ وأخذ منه مأخذَه.! حيث وأنهم على هذه الحال منذ فترة طويلة..
وأثناء ذلك وجد جرفاً فدخل إليه ليرتاحَ لفترة قصيرة فقط، لكن النوم أخذَه دون أن يشعُرَ.. وعندما استيقظَ لم يعد هناك أحدٌ من أصدقائه.. ناجى اللهُ بقلبه أن يهديَه وجهتَه ثم قرَّرَ أن يستمرَّ في المُضي قُدُماً..
رمى بحقيبته وحذائه إلى الجهة المقابلة من الجبل، والتي كانت تحتها هُوة كبيرة.. حتى يتمكنَ من القفز إلى الجهة الأُخْرَى، كان يقفز من مكانٍ لآخر تارةً.. ويمشي على أطراف أصابعه تارةً أُخْرَى.. وفجأةً.. انزلق على ظهره وكاد يصلُ إلى الحافة التي تحتها هُوَّةٌ أَوْ هاوية إلى الأسفل لولا لطف الله به.. كان ينادي كثيراً عَلَّ أحداً يسمعُه ويعلمُ بمكانه ليساعده، لكن.. دون جدوى، فصدى صوتِه هو الوحيدُ الذي كان يرُدُّ عليه..
وعلى الرغم من الوضع الصعب الذي كان فيه إلا أن قلبَه المؤمن كان واثقاً من أن الله سيتولى أمرَه برحمته ويفرِّجُ كربه بمِنَّتِه..
ها هو أخيراً يستمع إلى صوت حركة في الأعلى، تمالك قوتَه وأمسك ببندقيته وقام بإطلاق النار في الهواء ليهتدوا إليه..
وبحمدِ الله.. أخيراً تمكّنوا من الاهتداء إلى مكانه.. ثم قام أحدُهم بالنزول بحذر إلى حيثُ هو، ومَدَّ يدَ المساعدة له، إذْ أنه لم يكن من الممكن أن يتسعَ المجالَ لأكثر من شخص واحد..
آه.. لقد نجا أخيراً، صحيحٌ أنه تقلعت بعض أظافر قدمه وأصيب ببعض الجروح الأُخْرَى.. لكن الحمد لله أن أصدقاءَه استطاعوا أن يعثروا عليه..
رُبَّمَا قد يتبادِرُ إلى أذهان البعض أنها قصةٌ من بنات أفكاري أَوْ أنها كانت مغامرةً لمجموعة من الشباب في نزهة ما.!
لكن في الحقيقة أنها قصة واقعية لمجموعة من المجاهدين العظماء والذين لا تخلوا صولاتُهم وجولاتُهم من الكثير من المغامرات، والتي قد تكون هذه إحداها.. ؛ لأن هم بذلوا أنفسَهم وأرواحَهم لله وفي سبيله ولأجل عزة الوطن والمستضعفين؛ لذلك فهم لا يبالون بكل ما يتعرّضون له وهم يخطون خُطَاهم الواثقة نحو العلياء.. ونحو السماء..
إن بطل قصتنا هذه هو الشهيد رشاد خالد عبدالله الحوثي (أبو هاشم)..
تأريخ الاستشهاد 16_12_2015م_ مأرب..
لم تكن هذه القصةُ هي الوحيدةَ التي تحكي عن بطولات رشاد أَوْ عن ما تعرض له في مسيرته المقدسة نحو حلم حياته، ألا وهي الشهادة، أَوْ عن الجراح التي تعرض لها المرة تلو المرة والتي لم تكن تزيده إلا عزماً وإصراراً على مواصلة المسير في طريق الأولياء والأصفياء.. ومَن اختاروا لأرواحهم أن تحلِّقَ حُرَّةً سعيدةً في أركان السماء..
أُصيب رشاد بإصاباتٍ مختلفةٍ في أكثر من مواجهة.. لكنه لم يسمح لأيٍّ منها في أية مرة مهما بلغت أن تعيقَه أَوْ أن تأخرَه عن تأدية واجبه الجهادي، والذي لم يكن يرى لنفسه أيَّ عذر حتى ولو كانت إصاباتٍ بالغةً وخطيرةً في أن يتأخرَ عن تأديتها، بينما قد يقعُدُ الكثيرون من المخلفين في بيوتهم دون أي عذر ومهمتُهم الوحيدةُ هي كَيْلُ التهم والافتراءات لمن يتسامَون على جراحاتهم ويبذلون أرواحَهم رخيصةً في الدفاع عنهم وعن أعراضهم وكرامتهم أمثال الشهيد البطل رشاد..
كان رشاد طيِّبَ القلب جِدًّا، ولا يعرفُ الحقدَ أَوْ الكُرهَ طريقاً إلى نفسه.. سريعَ الرضا.. متسامحاً.. يبذل كُلّ ما بوسعه للإصلاح بين المختلفين، سواءٌ أكانوا من أقاربه أم الآخرين.. كريم جداً.. كما كان ذكياً في دراسته، ومن هوايته هندسة وإصلاح الأشياء.. وقد كانت والدته تتوقع أن يصير مهندساً في المستقبل..
رُبَّما لنا أن نتساءَلَ: كم هي المرات التي أُصيب فيها شهيدنا العشريني والذي لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره؛ لكي نقترب منه أكثر ونتعرف على حقيقة تضحياته وبذله..
ذات ليلة في إحدى الجبهات عندما كان رشاد ورفاقه المجاهدون فوق الطقم وأثناء إطلاق النار عليهم تسبب ذلك في انفجار البندقية وتطايرت منها شظايا، وأصيب رشاد في رأسه ورجله..
وقد أصيب في إحدى المواجهات بشظايا في أُذُنِه، كما أن سمعه كان قد تأثر من كثرة الهاونات والصواريخ التي كانت تسقط قريبا منه أثناء المواجهات في الجبهات..
والعديدُ من الإصابات والجراحات تعرض لها بطل قصتنا لعل أبرزها في جبهة مأرب عندما دخلت شظية حارقة من بطنه واخترقت الأمعاءَ الغليظة والكبد والذي استأصلوا جُزءاً منه فيما بعدُ، وأدى ذلك إلى أن نزفَ أربعَ لترات من الدم واستمر النزيف لمدة أربع ساعات، لكنه كان قوياً جِدًّا، وظل محافظاً على هدوئه وتركيزه ولسانه لا يفتر عن التسبيح والذكر حتى تم إسعافُه إلى صنعاء، وعندما وصل إلى المشفى أخبرهم باسمه وقد أصابت الطبيب الدهشة وملأته الرهبةُ معجباً ومتعجباً من ثباته وصلابته.!
حزن رفاقُه لإصابته، وقالوا: لقد أُصيب مَن كان يسعفنا، فمن سيسعفنا؟
وعلى الرغم من جراحه العميقة وإصاباته البليغة إلا أن رشاد لم يتحمل بقاءَه بعيداً عن ساحات البطولة والتي اعتادت نفسه على استنشاق هوائها التي تفوح منها عبق الحرية.. وروحه على التحليق بين جنباتها زاكيةً بشموخ في صولات العزة والكرامة..
حتى بعد أن جُرِحَ لم يتوقفْ عن الأعمال الجهادية في صنعاء ومنها توزيع الأغذية لأسر الشهداء..
وبعد شهر، وعلى الرغم من توصياتِ الأطباء له أن يلزمَ الفراش؛ نظراً لحالته الصحية الحرجة بعد الإصابة التي تعرض لها، إلا أن المجاهد البطل عاد إلى الجبهة.. لكن أصدقاءه المجاهدين منعوه لِما يعلموا من إصابته، فلبث قليلاً حتى عاد للعمل في إيصال المدد للمجاهدين في الجبهات..
لطالما تحدث الشهيد عن حياة الجهاد وأنَّ لها لذةً لا يفوقها شيءٌ في هذه الحياة، وعن الأواصر الأخويّة التي بين المجاهدين.. وكم جمعته بهم من روحانيات واقتحامات وبطولات.. ولكم كان يعتصرُه الألمُ عندما يُصابُ أحدُ رفاق دربه أَوْ يسبقُه إلى النعيم المقيم، لكن والدتَه المؤمنةَ كانت تواسيه دائماً وتُخبِرُه أن اللهَ لم يختَـــرْك بعدُ؛ لأنه لا زالت هناك أعمالٌ يريد منك أن تُؤدِّيَها..