الصمَّـاد الفرد.. والصمَّـاد الظاهرة
حمود عبدالله الأهنومي
في زيارة عائلية، أمس الخميس إلى مدينة (ثلاء) كان أَكْثَـر ما يثير فضولي هو مشاهدة بعض الآثار التأريخية والعلمية فيها، لكن السؤالَ الذي كان ابنَ تلك اللحظة هو معاينة بيت الرئيس الشهيد (إبراهيم الحمدي) كيف يكون؟ فلما رأيته بيتا متواضعاً، داهمتني المفارَقةُ التي استولت عليَّ، وهو مقارنة هذا البيت المتواضع، ببيتٍ آخر لرئيسٍ آخَر، لكنه بيت غير موجود أصلا، إنه بيت المجاهد الشهيد البطل الرئيس (صالح علي الصمَّـاد)، بل وأتذكر أنه لما قال رضوان الله عليه: إنه إذَا استُشْهِد (الصمَّـاد) فإن أولاده في آخر الشهر لا يجدون لهم مأوىً غير العودة إلى مسقط رأسهم في سحار صعدة، قلت في نفسي: وهل أبقى العدوانُ الشيطاني لك – سيدي الرئيس – أَوْ لذويك بيتا أَوْ مأوى في صعدة؟!
إن هذه المقارنة تقود إلى المقارنة بين الرئيسين الشهيدين، فكلاهما رئيس وشهيد، كان لكليهما مشروع وطني ورؤية نهضوية شاملة، واغتيلا جَمِيْـعاً على يد عدو واحد، وربما لغرض واحد، وغاية واحدة، هي تدمير الدولة اليمنية الوطنية العادلة، وقتلُ أيِّ طموح أَوْ نزوع إلى بنائها، حيث يستهدف هذا العدوان جميع المُؤَسّسات والرموز والمُؤَسّسات التي لها علاقة بالدولة الحرة المستقلة والناهضة.
لقد شكَّل كلاهما خطراً على الأنظمة المصنوعة على عين الاستعمار، وتحت سمعه وبصره؛ لهذا سارعت دول الاستكبار لتصفيتهما؛ حيث تريد في بلدان المسلمين والعرب أنظمةً وشعوبا تسود فيها حالة التوحش والخراب والتمزيق والتدمير، وما صناعتهم لما يسمى بالقاعدة وداعش، وخلقهم لهُوِيَّات صغيرة متناحرة (شبوانية – حضرمية – عدنية – لحجية -…) تعمل على نقيض الهوية اليمنية الإيْمَـانية الجامعة لَهو دليلٌ على خطورة المشروع الذي يتحَـرّك فيه الاستعمار الجديد ومرتزِقته العملاء.
قديماً وصل إلى الحكم الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز (99- 101هـ) على حين غِرة من عائلته الحاكمة، فأجرى إصلاحات كرِهها أهلُه، وحمِدها له المسلمون جَمِيْـعاً، وسجّلها التأريخ على بساط الرضا والشكر، غير أنه ما إن غادر الحكم – بوضع السم في طعامه من قبل بعض أسرته – حتى عادت الانحرافات بأسوأ مما كانت عليه في عهد أسلافه؛ وتلك هي النتيجة الطبيعية لإصلاحاتٍ طارئة وغريبة أقيمت على أرضية فكرية واجتماعية وثقافية وسياسية منحرفة في الأساس والبناء والممارسة والتأريخ.
انتقاض عروة الحكم في الإسْلَام منذ اليوم الأول بعد مغادرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فتحَ البابَ على مصراعيه لوصولِ أمثال يزيد بن معاوية، وهشام بن عبدالملك، والوليد بن يزيد بن عبدالملك ليتربَّعوا على عرش الخلافة الإسْلَامية، وعلى الرغم من اشتعال ثورات التغيير والإصلاح في حواضر العالم الإسْلَامي، إلا أنها لم تفضِ إلى تغييرٍ مادي ملموس في واقع الحكم السياسي للمسلمين إلا في حالاتٍ شاذةٍ وعلى رُقَعٍ جغرافية محدودة.
أفرز الانحرافُ السياسي على مرِّ تأريخ المسلمين جَـدْباً في الكتابات الفكرية السياسية لدى المفكرين المسلمين، فأخطرُ قضية اختلف فيها المسلمون هي الحكم والدولة وشؤونهما، لكن بابا صغيرا في الفقه كالحيض والنفاس استأثر على اهتماماتِ معظمِ الفقهاء المسلمين، أَكْثَـر بكثير من اهتمامِ سوادِهم الأعظم بقضايا الحكم والدولة، حتى إذَا جاء أبو الحسين الماوردي (ت450هـ/ 1058م) وكتب في كتبه (الأحكام السلطانية والولايات الدينية)، و(درر السلوك في سياسة الملوك)، و(قوانين الوزارة وسياسة الملك)، ما يدعو إلى إضفاء الشرعية الإسْلَامية على حكام الجور والظالمين، وإقرار ولاية العهد، ليفتح بابَ النمَط الفقهي التبريري، الذي يغض الطرف عن كُـلّ ما يمارسه الحكام، ولا يضع أيَّ مانع من تولي أراذل الناس أمرَ هذه الأُمَّـة، بل وحرّم القيام بأية ثورة ضدهم مهما بلغوا من السوء، ومهما كان سلوكهم في الحكم إجرامياً ومخالفاً ومناقضاً للشريعة الإسْلَامية.
بل إنهم جعلوا اعتقادَ المسلم العادي بأنهم ولاة أمرٍ ينفِّذون إرَادَة الله – حتى ولو كانوا بشرِّ صفات – من الدين الذي يجب أن يدينوا به لله تعالى، ولهذا دعوا العامة باسم الإسْلَام للإيْمَـان باعتقاد شرعية إمارة المخادِعين والقتلة والمجرمين، وشجعوا على التطاحن السياسي والانقلابات العسكرية، فأظهروا بهذا استناداً إلى ما سموه “فقه الضرورة والمصلحة” تساهلاً زائداً أباحوا به تسلط الجوَرة والظلمة، وتحولت بما ذهبوا إليه من “نظرية خوف الفتنة” الموهومة إلى ذريعة لإلغاء التعاليم الشرعية المتيقَّنة، وهم وإن أطنبوا في تفصيل شرائط الإمامة وصفات الخليفة فقد ألغوا في المجال الواقعي كُـلّ تلك الشروط والصفات عندما أقروا بإمامة الغلبة والقهر وتحت أية معايير ومواصفات للحاكم، ففتحوا بهذا الاجتهاد السائب باباً واسعاً للفتنة الحقيقية، لا يختلف عما دعا إليه ميكافيلي في كتابه الأمير عن الانتهازية السياسية والأَخْــلَاقية.
هذا الموروث الثقافي والفكري هو الذي يتكئ عليه ابن سلمان وابن زايد وأضرابهم من أدوات العدوان، وأولياءِ اليهود والنصارى، في انبطاحهم للأمريكان والصهاينة، والمسارعة في هواهم، والظلم والاعتساف لشعوبهم، والتعدي والعدوان على شعوب المسلمين من سواهم، وإلا فما هو تفسيرُ سكوت جميع المدَّعين للعلم والتقوى في بلد الحرمين، والأزهر، وغيرها، عن النهي عن المنكر الذي تمارسه دول العدوان بحق اليمنيين ودولتهم وشعبهم؟ بل وإطلاق الفتاوى وتطويعها لصالح هوى هؤلاء الحكام الصبية؟ في الوقت الذي أجزِم بأنه لو كان الأمر بالعكس، أي لو كان اليمنيون هم من يعتدي نظامُهم على شعب الجزيرة لوجدنا العشرات والمئات من العلماء وصناع الرأي اليمنيين يواجهون نظامهم ودولتهم بالإنكار باللسان وبالسنان أيضاً؛ ذلك لأن إيْمَـانهم يقتضي من أيٍّ منهم أن يكون آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، ولا قدسية لحاكم ظالم لديهم.
وبالعودة إلى ما سبق فقد أشبه الرئيسُ الشهيدُ الحمدي الخليفةَ الأمويَّ عمر بن عبدالعزيز؛ حيث أنه ما إن غادر الحكم حتى غادرت إصلاحاتُه الواقعَ الإسْلَامي آنذاك، بل وذهب خليفته يزيد بن عبدالملك إلى تتبع رجاله، من أهل العدل والتوحيد، وعلى رأسهم أئمة المعتزلة، والتنكيل بهم، وقتلهم؛ ليس لذنبٍ سوى أنهم كانوا ينادون بقيمة العدل، وانطلقوا يعينون (ابن عبدالعزيز) على تطبيقها على مسرح أحداث خلافته؛ والأمر نفسه ينطبق على إصلاحات وتغييرات الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي.
والسؤال المهم الآن: هل سيتكرر الأمر أَيْـضاً مع الرئيس الشهيد (صالح الصمَّـاد)، فما إن يغادر هذه الحياة حتى يغادر مشروعُه في بناء الدولة ونهضة الأُمَّـة اليمنية مسرحَ واقعنا؟
ذلك هو ما أحاول الإجابة عليه في هذا العرض المختصر.
إن الرئيس الصمَّـاد رغم أنه هو البطل التأريخي الذي صنع ويصنع الحدث المعاصر مع آخرين، ولكنه بدون المشروع القرآني الذي تحرّك على أساسه وبناءً عليه لن يكون أَكْثَـر من (عمر بن عبدالعزيز) أَوْ (حمدي)؛ ذلك أن (الصمَّـاد) هنا ظاهرة ومنهج، وليس مجردَ شخصٍ، فحتى على افتراضِ عدمِ وجودِ شخصٍ اسمُه (الصمَّـاد) فإن الظروف الفكرية والثقافية والتأريخية والاجتماعية والسياسية كانت ولا زالت كفيلة بإنتاج منهَجٍ وظاهرة (صالح الصمَّـاد)، الظاهرة التي رأيناها متمَثّلة في الأستاذ (محمد علي الحوثي) من قبله في أيام اللجنة الثورية، والتي أتوقع أن نراها أَيْـضاً في خلفه الرئيس مهدي المشَّاط بإذن الله تعالى.
إن ما غفل عنه العدوان والمعتدون أن (الصمَّـاد) بات منهجا، وأن دم (الصمَّـاد الفرد) هو وقود أَيْـضاً لإشعال مصابيح (الصمَّـاد المنهج) واستمراره، وأنه أَصْبَـح مُخْرجاً من مخرجات الثقافة القرآنية، وأن مشروع الثقافة القرآنية المستنهِض لمقومات الأُمَّـة في سبيل عزتها وكرامتها واستقلالها بجميع مجالاته الحضارية المتعددة يقتضي بالضرورة ظهور (صمَّـاد) في كُـلّ القيادات التي ستقدمها لهذه الأُمَّـة.
ولعل من أهمّ القضايا الفكرية التي لها علاقة بهذا الوضع؛ هو أن هذه الثقافة القرآنية تقف على النقيض مع ثقافة التبرير للحاكم الظالم التي استقاها أولئك الوعاظ في بلاد ابن سلمان وابن زايد وأضرابهما من ثقافة الخنوع والخضوع التي أطلقها عبدالله بن عمر بن الخطاب يوم وقعة الحرة، حين فرّ من مسؤولية مواجهة ظلم يزيد وطغيانه قائلا: (نحن تبعٌ لمن غلب)، هذا الوضع هو الذي سمح لمثل ابن سلمان أن يكون حاكما على رأس نظامٍ عاتٍ وجائرٍ بل وعميل أَيْـضاً لليهود والنصارى بشكل سافر، وبشكلٍ غيرٍ مسبوق في تأريخ العرب والمسلمين.
غير أن الثقافة الفكرية، والحركة الاجتماعية، والمنطلقات السياسية والجهادية لهذه المسيرة هي التي أعطت مدرِّسا عاديا، في إحْــدَى مدارس محافظة صعدة هذه الكارزمية، وذلك الحضور، وذلك العطاء، ولهذا فإن (الصمَّـاد) وإن غادرَنا شخصُه الكريم، وعطاؤه الزاخر، وإخلاصه الكبير، فإنه سيبقى فينا ظاهرة متكررة ما دامت الأرضية التي أنتجته موجودة.
إذن (الصمَّـاد) ظاهرة ومنهج يعَبِّر عن وضع ثقافي وفكري وأَخْــلَاقي أصيل، وليس مجردَ شخصٍ مرَّ على جنبات التأريخ متسللا بعض الوقت، ثم تم الركض به خارج السياق. هذه الظاهرة مؤشر لوجود دولة مختلفة، تعبِّر عن هوية جامعة وأصيلة، في سياق حركة أحداث تأريخية مختلفة، أفرزت وتفرز نخبا وقادة وأمة مختلفة عن السائد في عصر العولمة الأمريكية.
(الصمَّـاد) الذي رأى فيه عالم الاستكبار وأدواته في المنطقة والإقليم خطراً على منظومة الزعماء (الكراتينيين) بما كان له من علم ومعرفة ولغة وفصاحة ومشروع واستقلالية أثبت نموذجا مختلفا عن الحكام العرب والمسلمين في هذا العصر، وما يجب على الجميع أن يعلمه أن الرئيس (المشَّاط) هو خريج تلك المدرسة التي تخرَّج منها الصمَّـاد، وأنه من المرجَّح أن يمضي في ذات الطريق وعلى ذات المسار.
إن ما يجب على الأُمَّـة هو أن تكون شريكاً أساسياً في صناعة الحدث التأريخي المطلوب، وذلك بالاستمرار في إمداد الحالة الثقافية والفكرية والاجتماعية والسياسية والجهادية – المنتجة لهذه الحالة القيادية – الزخمَ المطلوب من الأُمَّـة كأمة حاضنة للمشروع، لتكتبَ مشروع الخلاص ليس لليمن فقط، بل للأُمَّـة الإسْلَامية والعربية جمعاء، كما قال ذلك يوماً الشهيد الرئيس (صالح الصمَّـاد) رضوان الله عليه.