جنازة يمنية تحت قصف الطائرات
زهير كمال
رُبَّمَا كانت جنازةُ الرئيس اليمني صالح الصمَّـاد هي الجنازةَ الثانيةَ من حيث الحجم بعد جنازة الرئيس جمال عبدِالناصر، فقد امتلأت ساحة السبعين في صنعاء بعددٍ يُقَدَّرُ بالملايين، حضروا رغم طائرات النظام السعوديّ ورغم القصف؛ بهدف اصطياد بعض القادة ورغم قنابل الدخان التي رمتها الطائرات، وكان هدفُ العدوِّ إثباتَ أن أنصار الله أقليةً في صنعاءَ.
والحقُّ لقد كانت جنازةً مهيبةً تليقُ برَجُلٍ أحبَّه شعبُه وعُرف إخلاصه له وتفانيه في خدمته.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يغتال فيها النظامُ السعوديّ رئيساً يمنياً، فقبل ذلك اغتال الرئيس الحمدي الذي أحبه شعبُ اليمن ولا يزال يذكُرُه بالخير، وسببُ اغتياله مطالبتُه بالأراضي اليمنية التي اغتصبها النظامُ السعوديّ في نجران وجيزان وعسير. ولكن ستكون هذه هي المرة الأخيرة التي يقومُ بفعلته ثم لا يعاقِبُ عليها.
شيءٌ ما تغير في صنعاء هذه الأيام تظهره جنازة الرجل المهيبة، وقبلها مسيرة البنادق في الحُدَيْــدَة، فهناك انضباطٌ ممتازٌ تحلت به الجماهيرُ، وهناك نظامٌ وترتيبٌ لم يكن معروفاً سابقاً.
دخل أنصارُ الله صنعاء عام 2014 بعد فشل النظام الذي ورث علي عبدالله صالح في تحقيق أي هدف من أهداف ثورة الشباب، كتبتُ مقالاً يومَها بعنوان (أنصارُ الله والربيع العربي)، حاولت فيه تخفيفَ المخاوف والتوجُّس من هؤلاء، ورحّبت بهم في صنعاء، فقد بلغ السيلُ الزُّبَى من النظام القديم، من تغوُّله في الفساد وعدم قدرته على حلّ مشاكل اليمن المتراكمة والمستعصية.
ولكن النظامَ السعوديَّ استشعر خطرَ القادمين الجدد الذين لن يقبلوا أبداً بالتبعية له، كيف ولا وهو يعتبرُ اليمنَ مزرعةً خلفية له؟!، فقام بشن الحرب عليهم؛ بهدف إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، واعتبرتها في مقال (بداية النهاية للنظام السعوديّ) حرب الأغنياء ضد الفقراء، حرب الحفاظ على الوضع القائم ضد قوى التغيير في العالم العربي.
عبر التأريخ، لا يتحلى هؤلاء الذي يعتبرون أنفسهم أقوياء بالحكمة؛ ليتعلموا من دروسه، فغرورُ القُــوَّة يمنعُهم من توخّي الحذر، فعلى سبيل المثال لم يتعلمْ هتلر من درس نابليون أن غزوَ روسيا والانتصار فيها مستحيلٌ، ففقد معظمَ قُــوَّاتِه هناك وكانت سبباً في هزيمته.
ولا أعتقد أنِّ هناك في آل سعود من يتحلى بالثقافة ويقرأ التأريخَ؛ ليعرفَ أن اليمنَ أرضُ الغزاة على مر العصور. وفي نهاية المقال قلتُ ومن أرض اليمن ستبدأ هزيمةُ القوى المعادية لتطلّعات الشعوب العربية.
عمل النظامُ السعوديُّ تقتيلاً وتدميراً وتجويعاً في اليمن خلال السنوات السابقة وكانت الاستراتيجيةُ اليمنيةُ التركيزَ على العدوّ وضربه في عُقر داره وهي استراتيجية صحيحةٌ، فعند تسليم العدوّ بالهزيمة يهربُ العملاءُ وتتوحَّدُ اليمنُ ثانيةً، علماً أنَّ أنصارَ الله لا يريدون الاستئثارَ بالسلطة، فالتعددية وقبول الطرف الآخر هو السبيل الوحيد لمستقبل اليمن في القرن الواحد والعشرين.
كانت مجمل تصريحات قادة أنصار الله، بما فيهم الصمَّـاد نفسه، تتمركز حول الجنوح للسلم، وكانت صواريخهم أَوْ سلاح الفقراء بمثابة رسائلَ تتضمَّنُ هذا المعنى، فلم يكن الهدفُ منها إلحاقَ ضرر غير قابل للإصلاح، والجنوحُ للسلم كان بسبب الضغط المروِّع على الشعب اليمني الذي ما يزال حتى هذه اللحظة هائلاً، جوع وأمراض فتّاكة وحصار وقتل ودمار وتقسيم.
وإحساسُهم بوطأة المسؤولية الملقاة على عاتقهم يجعلهم يتوقون إلى البحث عن حَلِّ مشرِّفٍ لهذه المأساة المستمرة.
ولكن الطرف الآخر لا يُبَالي ولا يحسبُ حساباً للأوضاع الإنسانية بل يوظّفُها لحسابه، فالشعوبُ بالنسبة إليه مجرد أعداد لا مانعَ من التخلص منها إنْ لزم الأمر، والعراق وسوريا خير مثال على ذلك.
سيكون اغتيالُ صالح الصمَّـاد نقطةً فاصلةً في الحرب، وستكونُ نقطةَ تحوُّل كبرى في الاستراتيجية اليمنية، فلم تعد المسألة حلاً للمشكلة اليمنية بل حل للمشكلة العربية ككل وذلك بالقضاء على النظام السعوديّ الذي اتسعت شروره لتشمل كامل المنطقة العربية.
واليمنيون هم الوحيدون القادرون على ذلك فالنظام السعوديّ يحاربهم وجهاً لوجه والطائرات التي تحمل علمه تجوب سماء اليمن على مدار الساعة ولا تسلم منها حتى أعراس البسطاء.
والعدد الهائل من الحضور في جنازة الصمَّـاد هو بمثابة شيك على بياض لأنصار الله لصياغة الاستراتيجية الجديدة.
ضخامةُ عددِ الحضور في الجنازة ناتجٌ عن الشعور الشعبي العارم أن دولةَ اليمن الجديدة هي دولتهم، دولةٌ كان الفساد ينخرُ فيها حتى العظام فتحولت إلى دولةٍ بدأت تخلو منه، دولةٌ أصبح فيها رئيسُ الجمهورية يتقاضى راتبَه المحدَّدَ مقابل خدمته في هذه الوظيفة العامة.
وَرُبَّمَا كان هذا الشعورُ الشعبي يتحققُ لأول مرة في تأريخِ اليمن منذ سيف بن ذي يزن. ومقابل هذا الشعبِ المسيّس عن بكرة أبيه نجدُ في المقابل شعوباً كاملةً مدجّنة قامت أنظمةُ الحكم باستلاب وعيها على مدى زمني طويل بإقناعها أن طاعة ولي الأمر هي من طاعة الله.
ولن تقومَ هذه الشعوبُ باسترداد وعيها إلّا بعواملَ خارجيةٍ تهُــزُّها من أعماقها وتفيقُها من إغماءتها.
ولعلَّنا لاحظنا أنَّ صاروخاً واحداً على مطار الرياض حول مؤتمر قمّة الأنظمة العربية إلى الظهران. وبما أنَّ خيرَ وسيلة للدفاع هي الهجوم، فإنَّ المطالَبة والعمل على تحرير الأراضي اليمنية في جيزان ونجران وعسير هي نقطةٌ هامةٌ في الاستراتيجية الجديدة.
وبهذه المناسبة، فلعلَّ الأردن يحاوِلُ استرجاعَ الحجاز، والجيشُ الأردني قادرٌ على ذلك فلم تعد عائلةُ آل سعود أمينةً على الحرمين الشريفين، وأولى بالأردن ان يسترجعَ ما اغتصب منه في بداية القرن العشرين بفعل التآمر الاستعماري.
كما اقترح أن تبدأَ الحكومة اليمنية بتسجيل كافة الخسائرِ المترتبة عن هذه الحرب الظالمة التي بدأها النظامُ السعوديّ وتقدير التعويضات المناسبة، سواء على مستوى الدولة أَوْ الأفراد، فشعبُ اليمن أولى بالمال الذي يتبخَّــرُ الآن في صفقات السلاح وفي التآمر على الأمة العربية والتحالف مع أعدائها.