الهُدنةُ المؤقتة.. استراحةُ محارب لاستئناف معارك أشد ضراوة وتعقيداً

في أكثر من إعلان هُدنة، خرقت السعوديةُ إعلانَ وقف إطلاق النار وارتكبت عدةَ جرائم

 

المسيرة – محمد أحمد الشرفي *

عادةً ما تتمثلُ الخطوات الأولى للتسوية في إرساء هُدنة من نوع ما؛ بسَببِ صعوبة المفاوضات في ظل استمرار أعمال العنف بين الطرفين؛ ولذلك ظلت الأمم المتحدة تدعو إلى وقف إطلاق النار قبل كُـلّ جولة تفاوض بين أطراف الأزمة اليمنية، لكن تلك الدعوات قُوبلت كُـلَّ مرة بالاختراقات المتكرّرة، وعودة الحرب أكثر مما كانت عليه، فعلى سبيل المثال، وأثناء فترة الهدنة في اليوم الثاني من مفاوضات “جنيف2” تم زحفُ المرتزِقة على صحراء الجوف التي كان الجيش واللجان الشعبيّة يسيطرون عليها آنذاك.

وفي مفاوضات “الكويت1” رفض الوفد الوطني عقدَ أول جلسة للمفاوضات، مشترطاً وقفَ الغارات الجوية على اليمن، وقُوبل هذا الشرط بالرفض من قبل السعودية، وتم تأجيلُ الجلسة الافتتاحية للمفاوضات لمدة أربعة أيام قبلَ موافقة السعودية إثر ضغوطات دولية، وبعد توقف الغارات الجوية، والالتزام بالهدنة لمدة أسبوع واحد، استأنفت السعودية غاراتها الجوية _في خرق للهدنة_ وارتكبت حينها مجزرة سوق مستبأ في حجة، التي راح ضحيتها أكثر من (100) من الشهداء المدنيين.

وبغض النظر عن الآثار المترتبة على الجرائم الإنسانية في حق المدنيين، إلا أن الغدر بالخصم –بحد ذاته- يُعد محظوراً وفقاً لقواعد القانون الدولي الإنساني، فقد نصت المادة رقم (37) من البروتكول الإضافي الأول لعام 1977م الملحق باتّفاقيات جنيف لعام 1949م على أن “التظاهر بنية المفاوضات تحت علم الهدنة، أَو الاستسلام يعتبر من أفعال الغدر”([1]).

وبمقتضى النظام الأَسَاسي للمحكمة الجنائية الدولية، فإن قتل أحد المقاتلين من العدوّ أَو إصابته غدراً يُشكّل جريمة حرب في النزاعات المسلحة غير الدولية.([2]) وهذا يدل على أن اتّفاق وقف إطلاق النار لا يعني انتهاء الحرب، والتنازل عن التصريحات اللفظية والقيام بتحَرّكات غير حربية وحشد العرائض والمظاهرات والمقاطعة والعقوبات، فقد توحي جميعها بأن هناك تطوراً آخرَ ستشهدها الحرب، وقد يؤدي استمرار حالة عدم الرضى إلى استئناف التحَرّكات في مرحلة لاحقة.

ومع أن الهُدنةَ ووقفَ التصعيد العسكري خطوة مهمة في بناء الثقة بين الأطراف التفاوضية “إلا أن هذه الخطوةَ قد تؤدي إلى قبول تدريجي بالوضع القائم وترك الأزمة معلقة دون تسوية”، كما حصل في اتّفاقية الهدنة في الحديدة، أَو ما سُميت بـ”إعادة الانتشار المسلح”، ضمن بنود اتّفاقية ستوكهولم نهاية ديسمبر 2018م، التي تلزم الجميع الانسحاب من مدينة الحديدة، ومينائها إلى حدود منطقة الانتشار، ويستقر كُـلّ طرف في المكان المحدّد له‘ إذ أن انسحاب الأطراف إلى مكان معين، والدخول في حالة هدنة طويلة، تؤسس لحالة من الحكم الذاتي في تلك المناطق، خَاصَّة إذَا دخلت الأطراف في مفاوضات لتسوية سياسية شاملة طويلة الأمد.

ولا يعني هذا أن اشتراطَ هُدنة للدخول في عملية المفاوضات أمر سيء، فهي تخلق أرض مشتركة للتفاوض، وتؤكّـد رغبة الأطراف للوصول إلى حل بكل جدية، وقد يتم الضغط من خلال الهدنة على طرف، فيقابله الطرف الثاني بتقديم تنازلات، وهذا يدفع لنجاح المفاوضات، لكن ذلك يتطلب أن يتبعها تدعيم واقعي وفعلي لمسار المفاوضات وإلا تحولت إلى نتيجة عكسية بأبطال ما تم التوصل إليه لاحقاً كاستخدام السلاح، أَو الاستمرار في القيام بسلوكيات منافية للغة الحوار والمفاوضات.

وتدل أغلبُ وقائع الحروب بين الأطراف الدولية أن الهُدنةَ المؤقتة وغير المقيدة بضمانات ملزمة، إنما هي عبارة عن استراحة محارب، لترجع بعدها الحرب أشد ضراوة وتعقيداً، وفي ذلك يحكي الدكتور بطرس غالي الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة مختصر خبراته الطويلة بقوله: “كما تدُلُّنا دروسُ التاريخ البعيدة منها والقريبة أن كُـلّ محاولة لفرض السلام دون توافر مقوماته الأَسَاسية التي تتمثل في العدل، وفي إرضاء مصالح الأطراف المعنية قد باءت بالفشل وكان السلام الناجم عن مثل هذه المحاولات أشبه بهدنة مؤقتة تنتهي بمواجهة”.

* باحث في العلاقات الدولية

 –[1]المادة( 37) من الملحق (البروتوكول) الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيف المعقودة في 12 أغسطس 1949م،
والمتعلق بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة.

[2]– النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، المادة (8).

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com