ليحق الحق بكلماته.. في ذكرى الشهيد الصمّـاد

 

المسيرة – محمد القبلي

غنيٌّ عن التعبير الرئيس الشهيد الصمَّـاد نموذج القيادة والإيمان والشجاعة، وبعد النظر والذي كان استثنائياً ليس على مستوى اليمن فحسب بل على مستوى العالم الذي يمر بظروف استثنائية بلغت فيه الهيمنة الغربية منتهى عنجهيتها وتلاطمت الأفكار في حروب لا تقل تدميراً عن الأسلحة الفتاكة ومواجهتها للنهوض بأمة مقهورة ومتأرجحة، يستدعي إيماناً راسخاً لا تزعزعه العواصف ووعياً عميقاً يستوعب كُـلّ متطلبات المعركة، وثقة بالله كاملة ليصنع أصحابها الإنجاز الذي أراده الله تعالى ويستحقوا وعده بالنصر.

عندما يفتقر الحق للوعي الذي يُسيّر الحياة بالصورة الصحيحة يطغى الجهل، فيعمل الإنسان ضد نفسه وتهدر الطاقات والإمْكَانات المتوفرة لديه، فيرزح تحت التخلف والعبثية، وعندما يفتقر الحق إلى القوة التي تردع الشر تطغى القوى الشريرة ويعبث قلة من الأشرار بالمجتمعات حسب رغباتهم الأنانية.

ومنذ القدم، حلم الإنسان بالمجتمع الفاضل كما في مدرسة أفلاطون الذي تنسب إليه الأكاديمية، وجاء أرسطو ليصحح بعض الأخطاء التي وقع فيها أفلاطون، ولم يغب عنه الاعترافُ بالقوة الإلهية في بعض أفكاره والتي لا يستبعد استفادة الفلاسفة من الرسالات السابقة والتي كان يطرأ عليها التحريف.

وجاء الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- بالقُـرآن الكريم الذي تعهد الله تعالى بحفظه ليكون مناراً دائماً للإنسانية للأخذ بما فيه خير الإنسان واجتناب ما يؤدي به إلى الشر والفساد في الدنيا والآخرة، ووقع المسلمون في كثير من الأحيان في الانحراف نحو فهم خاطئ للدين، وأبرز مثال اليوم هو داعش التي تحول بأفكارها الإنسان المسلم إلى قنبلة موقوتة تستهدف الأبرياء وتعمق الجهل بإعمار الأرض والدعوة إلى الله بالحكمة وردع أئمة الطغيان والجور.

ويُعتبر الإمام علي بن أبي طالب -عليه السلام- نموذجاً للتطبيق العلمي والعملي للعدل والإعمار وردع الشر، القائل: الناس إما أخٌ لك في الدين أَو نظيرٌ لك في الخَلْق، ويعتبر الإمام الحسين نموذجاً في التضحية عندما تفقد الحياة إمْكَانية عدم الإصلاح، حينما قال ما معناه ألا ترون الحق لا يعمل به والمنكر لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن إلى لقاء ربه، واللهِ ما أرى الموتَ إلَّا سعادةً والعيشَ مع الظالمين إلَّا برماً.

جاءت النهضةُ الأُورُوبية والتطور الصناعي، ليقدمَ إثباتاً جديدًا على أن الكون مسخر للإنسان، إلَّا أن فقدانَ هذا التطور العمراني لجانب معرفة الله الذي يأمر بالعدل والخير أطغى تلك البلدان لتحويل إمْكَاناتها إلى أداةٍ لظلم شعوب العالم خُصُوصاً الإسلامية منها، فاحتلت معظم بلدان الدنيا ونشرت الفساد الأخلاقي ونهبت ثروات الشعوب وتركتها تتخبط في التخلف والفقر، ليكدسوا هم ثروات الدنيا في بنوكهم، في حين يموت الملايين من أطفال شعوب العالم لعدم وجود ما يكفي من الغذاء ويحيون حياة البؤس لافتقارهم لأبسط المقومات والصحة والتعليم السليم.

عندما تحاولُ بعضُ الشعوب التي عانت الاحتلال والبؤس، الاستفادةَ من المنهج القُـرآني العظيم وبناء ذاتها بالوعي العلمي والقوة العسكرية لينعم شعبها بخيرات بلدهم وينظموا حياتهم للاعتماد على ذاتهم ويحقّقوا أمر الله فيهم ويحاربوا الشر والرذيلة، تستشيط الدول الاستكبارية غضباً فتوجد الحروب والحصار وتعمل على تشكيك تلك الشعوب بدينهم ورموزهم.

واستطاعت الصهيونية أن تغرس إسرائيل رغم قلة عددهم في الجسم الإسلامي، ليشعر المسلمون بالذل والإهانة ويتقبلوا كُـلّ أشكال الاحتلال الثقافي والاقتصادي والسياسي، ويرتهنوا للبنك الدولي وصندوق النقد والعولمة، لترسم لهم تفاصيل حياتهم كمجتمعات ثانوية تكون سوقاً للمنتجات ومصدراً للعملة الرخيصة ومنتجعات للسياحة التي تقدم فيها المسكرات وبنات المسلمين كأحد السلع الرخيصة للبقاء على قيد الحياة.

يبرز اليوم محور قوة إسلامي يعتمد العلم لبناء الأرض والإنسان، ويستبسل لمواجهة الشر عسكريًّا وفق إعداد محكم منطلقاً من إيمانه بعدالة الله تعالى وصوابية منهجه وصدق وعوده بالنصر على أَسَاس القُـرآن الكريم ونماذج من أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- الذين يتمتعون بالتقوى والعلم والشجاعة.

كانت الجمهورية الإسلامية انطلاقة رائدة لإسلام الحكمة والعلم والعزة والكرامة بقيادة الإمام الخميني -رحمه الله- في التاريخ المعاصر، وحرّرت الشعب الإيراني من الحكم الظلامي المرتهن للإرادَة الأمريكية والبريطانية وتكرست الجمهورية الإسلامية مشروعاً حضارياً راسخاً بقيادة الإمام الخامنئي ينافس أعرق الحضارات في التقدم العلمي والصناعي والزراعي والعسكري على أَسَاس الرحمة بالإنسان لا على أَسَاس الهيمنة التي ينتهجها الغرب، وجاء حزب الله ليكون شوكة في حلق الدولة الغاصبة إسرائيل، ويعيد للعرب بعض كرامتهم المهدورة ويحطم مقولة إسرائيل القوة التي لا تقهر.

ومن تلك المدرسة جاء الحشد الشعبي لينقذ العراق بكل مكوناته العربية والكردية والتركمانية وغيرهم، مسلمين سُنة وشيعة ومسيحيين وأيزيديين… إلخ، عملاً بالواجب ونُصرةً للحق على أَسَاسٍ قُـرآني.

وفي اليمن وبعد اجتماع العالم على محاربة الإرهاب وَيقصد به الإسلام، بعد أن تم دعم القاعدة وداعش لتقدمَ الإسلامَ على أنه قتل وخراب وتدمير دون وعي لتحشيد العالم ضد الإسلام، انبرى السيد حسين بدر الدين الحوثي -رحمه الله- متحدياً المشروعَ الأمريكي اليهودي وتوضيحه بأنه هو الفساد والإرهاب والاحتلال والظلم والخراب، وموضحًا بأن الوهَّـابية تحريف للإسلام، وعلى المسلمين العودةُ إلى نبع الإسلام الصافي القرآن الكريم وأهل البيت -عليهم السلام-، وكان الشهيدُ الرئيسُ الصمَّـاد من أوائل المستمعين والمتفهمين، فوقف إلى جانب السيد القائد الشهيد حسين -رحمهما الله- وظل وفياً صامداً مع السيد القائد السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي -يحفظه الله- عبر مراحلَ طويلة تعرضت فيها المسيرةُ القرآنية لأنواع الظلم والحرب والمعاداة لا لشيء إلَّا لأَنَّهم يصدعون بالحق ويرفضون الظلمَ حتى صار رئيساً لليمن بعد العدوان السعودي الأمريكي على اليمن، وكان لمنطقه دور كَبير في إقناع معظم القوى اليمنية للوقوف مع الحق ومصالح الشعب ورفض التبعية والإذلال، ونظر إليه معظم اليمنيين رجل المرحلة في ظل العدوان الغاشم على اليمن.

وقد أبدى قدرةً إداريةً متميزة وشجاعة نادرة جعلت منه الحاضرَ في كُـلّ مفاصل الدولة وجبهات الصمود والكرامة، وعاش مع آمال وآلام الناس بمصداقية وتواضع مع كُـلّ شرائح المجتمع، منطلقاً في كُـلّ ذلك من القرآن الكريم الذي لا يكاد تغيب آياته عن كلماته في كُـلّ مكان.

لم تؤثر على أفكاره وسلوكياته ظروفُ الحرب التي تزامنت مع المسيرة القُـرآنية منذُ انطلاقها، وكان أحد أعمدتها على مدى ستِّ حروب، ولم ينسه التصدي للهجوم الإجرامي الشرس الذي تنخرط فيه أكثر من ٢٠ دولة على اليمن وإن بنسب متفاوتة والذي هو المسؤول الأول في البلاد لمواجهته، عن النظر إلى المستقبل وبناء اليمن، فوجّه بصياغة الرؤية الوطنية الشاملة (يدٌ تحمي ويدٌ تبني)، والتي شملت الصمود في مواجهة العدوان والإعداد وتوحيد الجبهة الداخلية والهُوية الإيمانية وَالإصلاح الهيكلي والتشريعي للدولة وسيادة القانون ووحدة الأرض والبناء العلمي والاقتصادي المنتج، والمصالحة الوطنية والعلاقات الخارجية على أَسَاس الاحترام المتبادل، وبذلك ترك رؤية واضحة على كاهل الحكومة اليمنية، وهو ما يسير عليه اليوم الرئيس مهدي المشَّـاط وحكومة الإنقاذ بخُطَىً ثابتةٍ وموفقة ولله الحمد.

إنَّ الثقافةَ القُـرآنيةَ إذَا لامست عقولاً نَيِّرةً وقلوباً مؤمنة تثمر خيراً وعزة وكرامة، وَالأُمَّــة الإسلامية في طريقها إلى النصر وقوى الشر تنحسر شيئاً فشيئاً، والمشروع القُـرآني لا يجبر الآخرين على الدخول فيه، لكنه يدعوهم إليه ويرى أتباعه ملزمين بمواجهة الظلم والجور مهما كانت إمْكَانات الأعداء وكلمة الله هي العليا، ومن يسير فيه لا يستبعد الاستشهاد الذي هو كرامة من الله تعالى لأخلص عباده، فهنيئاً لمن عاش مجاهداً ولقي الله ثابتاً وَلا بُدَّ للحق أن ينتصر.

قال تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، رحم اللهُ الشهيدَ الصمَّـاد وجمعنا به في مستقرِّ رحمته.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com