الرؤية الوطنية ومكافحة الفساد (1-2)

د. أحمد عبد الله الشيخ أبوبكر*

تناولت في المقالين السابقين أثر الهوية الإيمانية في مكافحة الفساد، وسوف أتناول هنا ما جاءت به الرؤية الوطنية لبناء الدولة اليمنية الحديثة عن مكافحة الفساد؛ باعتبارها آخر ما جاد به الفكر الوطني من رؤى تهدف إلى إصلاح الأوضاع المتردية التي نعيشها والتي جاءت الحرب الباغية والظالمة على بلادنا لتفاقم من قسوتها وبشاعتها.

إن إعادة تشكيل الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد في فبراير 2019 لم تتزامن من باب المصادفة مع الحدث الوطني الأبرز المتمثل في إطلاق الرؤية الوطنية لبناء الدولة اليمنية الحديثة، بل يؤكد التوجه الجاد للقيادة السياسية لمحاربة الفساد ودعمها لدور الهيئة وباقي أطراف المنظومة الوطنية للنزاهة في تبني وتطبيق استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد، إذ لا يمكن تحقيق التنمية المستدامة بشرية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية والقضاء على البطالة وجذب الاستثمار في ظل أوضاع فاسدة..

 

لماذا كانت هذه الرؤية الوطنية؟

لقد جاءت هذه الرؤية الوطنية لانتشال بلادنا من حالة التخبط وإخراجها من النفق المظلم الذي تعيشه منذُ عقود طويلة، نتيجة للفساد المستشري في كل مفاصل الدولة، والمتمثل في سوء استخدام السلطة والنفوذ وسوء استخدام المال العام والموارد العامة وثروات الوطن، واستئثار فئات قليلة بمقدرات هذا الشعب؛ ولذلك قامت ثورتنا الشعبية المباركة وشعارها الأساسي محاربة الفساد , هذا الشعار الذي أصبح عنواناً لمرحلة فاصلة من تاريخ شعبنا؛ ولذلك كان لا بد أن تأتي هذه الرؤية لتكون ترجمة لهذا الشعار الذي رفعته الثورة، وتعبيراً عن هذه المرحلة الهامة من تاريخ شعبنا.

وفي هذا الصدد سنجد أن المحور الثاني من محاور الرؤية الوطنية الاثني عشر وهو محور منظومة إدارة الحكم، قد أفرد الفقرة (هـ) منه للكلام عن المنظومة الرقابية، وحدّد لها أربعة أهداف استراتيجية وعدداً من المؤشرات والمبادرات التي تقابلها وتهدف إلى تحقيقها، وذلك على النحو التالي:

1- الهدف الاستراتيجي الأول: هو تطوير سياسات وتشريعات المنظومة الرقابية وتعزيز استقلاليتها وفقاً لمبادئ وأسس الحكم الرشيد، ومن أهم مبادرات هذا الهدف الاستراتيجي:

تطوير منظومة التشريعات الوطنية المتعلقة بمكافحة الفساد، بما فيها القوانين الضريبية والجمركية وقانون النفط وقانون الاتصالات، وإلغاء الحصانة عن كبار شاغلي الوظائف العليا.

2- الهدف الثاني: هو تفعيل أداء الأجهزة والمؤسسات الرقابية وتعزيز مستوى التكامل والتنسيق في أعمالها، بما يحقق كفاءة أجهزة الدولة المركزية والمحلية.

وتقابل هذا الهدف عدد من المبادرات الهامة التي سيؤدي تطبيقها إلى تفعيل مؤسسات العمل الرقابي في إنجاز الأهداف والوصول إلى المؤشرات المطلوبة لتحقيقها ورفع كفاءة أجهزة الدولة، ولعل أهم المبادرات التي حددتها الرؤية لتحقيق هذا الهدف تتمثل في الآتي:

إجراء تطوير مؤسسي وبناء قدرات متكاملة للجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، وأتمتة وحوكمة أعماله وفقاً للمعايير والموجهات الصادرة من مؤسسة الأنتوساي.

وضع آلية تقييم عاجلة وتزمين الفترة المستحقة لاستكمال التحقيق في قضايا الفساد حتى يتم رفعها إلى الجهات المعنية في القضاء.

التطوير المؤسسي المتكامل لهيئة مكافحة الفساد، بما يعزّز من دورها في مكافحة الفساد وتعزيز الحوكمة في أجهزة الدولة.

التنسيق بين أجهزة ومؤسسات الرقابة العليا.

هذه المبادرات الهامة التي أوردتها الرؤية في مقابل هذا الهدف الاستراتيجي، هي ما يجب أن يتوفر للأجهزة الرقابية كحد أدنى من دعم فعلي للنهوض بأعبائها من حيث الفاعلية في الأداء والتطوير المؤسسي لإنجاز المهام المنوطة بها والوصول للمؤشرات المؤدية لتحقيق هذا الهدف، وهذا يقتضي تنفيذ هذه المبادرات على الواقع؛ لأن هذا هو المحك الحقيقي الذي يفرّق بين التنظير والتطبيق في عملنا واختبار مصداقية تنفيذ أحلام هذا الشعب التي حملتها هذه الرؤية التي مثلت لشعبنا بصيصاً من الأمل والنور لإخراج بلادنا من هذا النفق المظلم للفساد المستشري الذي تعيشه منذ عقود وصولاً إلى الحكم الرشيد الذي نطمح إليه.

هذا التطوير المؤسسي للجهاز والهيئة، سوف تكون له آثار إيجابية على أداء الجهاز والهيئة من جهة بمعالجة الأسباب المعيقة للعمل الموجودة في النظام الداخلي لكل منهما وإعادة هيكلتها، بما يزيل هذه المعوقات والانطلاق لإنجاز المهام وفق فترة مزمنة محددة يتم بعدها تقييم الأداء.

ولكن لا بد أن يصاحب هذا التطوير رفد الهيئة بالذات بالعدد الكافي والكفؤ من الكوادر النوعية المتخصصة القادرة على إنجاز المهام المنتظرة، وكل هذا مرهون بوجود إرادة سياسية داعمة بقوة لتنفيذ هذه المبادرات والقضاء على الفساد.

هذا ما يتعلق بالأجهزة الرقابية نفسها، وفي المقابل ما سينتج في الجانب الآخر من نتائج إيجابية تتمثل في تعزيز الحوكمة في أجهزة الدولة المختلفة كأحد المبادرات الهامة، بما يحقق كفاءة أجهزة الدولة المركزية والمحلية كهدف استراتيجي.

لقد تبنت الدولة سياسة اللامركزية في مختلف قطاعات الدولة، وفي ظل تشريعات الحكم المحلي الحالي منح قانون السلطة المحلية المحافظات والمديريات صلاحيات واسعة في إدارة الشأن المحلي في كل المجالات وأعطاها موارد مالية خاصة، إضافةً للدعم المركزي في ظل عدم وضوح الرؤية فيما يتعلق بدور المحليات في تحقيق التنمية عموماً، وتنمية الموارد البشرية على وجه الخصوص وغياب الخطط المتعلقة بهذا وعدم وجود توصيف وظيفي موحد.

ولذلك وفي ظل غياب تقييم حقيقي لإيجابيات وسلبيات تجربة اللامركزية في بلادنا، تصبح العودة لتعزيز الدور المركزي لأجهزة الدولة والحوكمة كوظيفة سيادية في الإشراف والمتابعة والتقييم لمنظومة العمل الحكومي ضرورةً ملحةً للحفاظ على أنظمة الدولة من التفكك وترشيد استخدام الموارد المتاحة على شحتها، في ظل هذا الوضع الاستثنائي المفروض على بلادنا، وذلك حتى تستطيع الدولة تقديمَ الحد الأدنى من الخدمات الأساسية للمواطنين.

إن الهدف الأساسي من أنظمة الحكم المحلي في تجارب دول العالم المختلفة هو تحقيق أمرين أساسيين هما:

1- تحقيق المشاركة السياسية من خلال تمكين المواطنين بالاختيار الحر المباشر من ممارسة حقِّهم في انتخاب ممثليهم في مجالس المحليات ومراقبتهم ومحاسبتهم.

2- تحقيق المشاركة التنموية بمنح المحليات موارد مالية خاصة، إضافة إلى الدعم المركزي لمساعدتها في تنمية مناطقها وتحسين حياة المواطن وجودة الخدمات.

أما أن تتحوّل المحليات إلى جهات للجباية وإثقال كاهل المواطن بمزيد من الرسوم والضرائب، وأن تختطف بعضاً من الوظائف السيادية لأجهزة المركز فهذا يتناقض تماماً مع فلسفة وأهداف الحكم المحلي في تخفيف المعاناة عن كاهل المواطن.

إن تقييم تجربة اللامركزية أمر ملح وضروري، وإلى أن يتم ذلك فعلى الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد في هذه المرحلة بالذات القيامُ بمراجعة هذه القوانين لسد الثغرات التي ينفذ منها الفاسدون وتشخيص الأخطاء وتصحيح الاختلالات، وهذا يحتاج إلى جهد كبير كما يستدعي ضرورة دعم الهيئة.

إن أنظمة الحكم المحلي في تجارب دول العالم المختلفة لم تفرض مرة واحدة، وإنما مرت بمراحل من التدرج والتقييم والإصلاح؛ لأن من أهم السمات الأساسية لهذه النظم المرونة والتجديد والتحديث المستمر للوصول إلى الأحسن، ففي فرنسا مثلاً التي تعتبر أم المحليات كان المحافظ المعين من السلطة المركزية حتى مارس 1982 يمتلك الوصاية وله سلطة الرقابة والإلغاء على قرارات المحليات المنتخبة من الناس، حتى صدر قانون مارس 1982 بعدها اقتصر دور المحافظ على الرقابة القانونية وذلك بعرض القرارات أمام المحاكم الإدارية لتؤيدها أو ترفضها، وأصبحت الكلمة الفصل عند الاختلاف هي للقضاء؛ ولذلك فإن مراجعة تجربة اللامركزية وقوانين السلطة المحلية وتقييمها لا يعني أبداً الرجوع إلى المركزية المفرطة السابقة التي ثبت فشلها بقدر ما هو بقصد تصحيح بعض الأخطاء الموجودة فيها للوصول للأفضل للناس.

ويجدر القول إن هناك تشابهاً إلى حدٍّ ما بين بلادنا والجمهورية الفرنسية؛ كونهما دولاً بسيطة لا فيدرالية ولا كونفدرالية وتجمعان بين النظامين الرئاسي والبرلماني؛ ولذلك فمن الممكن إعطاء المحليات درجات من اللامركزية دون أن يعني ذلك تغييراً في طبيعة الدولة البسيطة وتحويلها إلى مركبة، وإنما لكي لا نستبدل سلطة مركزية متغولة بسلطة لا مركزية غير منضبطة.

والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وللحديث بقية إن شاء الله عن باقي أهداف الرؤية الوطنية فيما يتعلق بمكافحة الفساد.

وصلى اللهُ وسلّم على سيدنا محمد وآله الأطهار..

*عضو لجنة التوعية والتثقيف والمشاركة المجتمعية – عضو لجنة تطوير التشريعات – رئيس فريق تطوير قوانين مكافحة الفساد

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com