اتّفاق تبادل الأسرى يحرّر الصيادين المختطفين ولسان حالهم: عدنا كما تعود السمك للماء
صحيفة الميسرة تلتقي الأسير الصياد الذي اختطفه تحالف العدوان برفقة 48 صياداً:
تحالف العدوان يختطف الصيـادين ليبادل بهم أسراه المقاتلين في الجبهات
لجنة شؤون الأسرى حريصة على كُـلّ مختطف وأسير يمني والعدوّ بلا أدنى أخلاق
المسيرة: فاروق علي
عندما خرج الأسيرُ الصيَّـاد عبد الدايم الرديني من طائرة الأسرى المحرّرين في الصفقة الأخيرة أطل بوجهه سعيدًا ومبتهجًا لحريته التي نالها بعد أربع سنوات في سجون العدوان السعودي، ورغم أنه لم يكن مقاتلًا في جبهات العزة والكرامة إلى أنه نال ذات النصيب من الاستقبال والترحيب الرسمي والشعبي كغيره من أسرى الجيش واللجان الشعبيّة؛ لأَنَّه عانى في سجون العدوّ السعودي ما تحمله إخوانه المجاهدون من عذاب وظلم واضطهاد.
لقد وصل عبد الدائم وبقية الأسرى إلى أرض الوطن التي قبلت أقدامَهم، وعانقوا بعضَهم وأسرهم وشعبهم، وغسلوا بدموعهم المقدسة أرواحَهم المجروحة، ولم يتبقَّ لهم من الألم سوى الذكرى القاسية التي سيحكونها لليمنيين، الذكرى التي تظهر وحشية النظام السعودي واللاإنسانية التي يتعامل بها مع الأسرى دونَ اعتبار للقوانين الدينية والإنسانية التي نظّمت حالة الأسرى وبيّنت حقوقهم باعتراف وتوقيع كافة الدول في العالم.
ذكريات عبد الدائم الرديني حول قصة اعتقاله وأسره يحكيها للمسيرة بلسان المظلوم الذي كانت تهمته هُويته اليمنية وعدم ارتهانه للعدوان وتجنبه للارتزاق على حساب دم الأبرياء والضحايا الذين قضوا نتيجةَ حرب السعودية على اليمن.
في المياه الإقليمية اليمنية.. الصيد الحرام:
في اليوم العاشر من شهر أُكتوبر عام 2016م، خرج عبدُ الدائم علي الرديني من أبناء مديرية حيس في محافظة الحديدة برفقة 48 صيَّـادًا؛ للبحث عن الرزق في عرض البحر، على مقربة من المياه الدولية الإرتيرية، وكانت المجموعة قد استخرجت تصريحًا من السلطات الإرتيرية بتكلفة 4 آلاف دولار للعمل لمدة خمسة عشر يوماً في صيد الأسماك والعودة بعدَها لبيع الرزق وشراء احتياجات أسرهم الضرورية من دقيق وأرز وغيره، في اليوم السادس توزعت مجموعةُ الصيَّـادين اليمنيين على قارب رئيسي ضمَّ 25 فردًا وقوارب صغيرة عليها 24 فردًا، لتتفاجأ المجموعة على القارب الكبير بهجوم لقوات سعودية حوّطت القارب ووجّهت سلاحها على الصيَّـادين.
يقول عبد الدائم: تم تهديدنا بالسلاح، وجردونا من ملابسنا وأيدينا مرفوعة استسلاماً قبل أن يتم تقييدها للخلف بكلبشات، ثم توجّـهوا نحونا بالضرب والصفع والشتم، كانوا يصرخون علينا “يا حوثيين يا كلاب”.
استمر بهم هذا الحال ثلاثة أَيَّـام في عرض البحر ومنعت القوات السعودية القوارب الصغيرة من الاقتراب وتركتها دونَ طعام أَو بترول يمكّنها من العودة إلى الحديدة، أما الأسرى على القارب الكبير فواجهوا التحقيق والتفتيش والامتهان من قبل الضباط والجنود السعوديين، قال لهم عبد الدائم: “لقد فتشتوا القارب ولا يوجد عليه أسلحه أَو أية محظورات، لدينا ستة أطنان من السمك، وأدوات الصيد فقط!” وتم نقل الأسرى إلى السفينة السعودية وهناك تلقوا أنواعا من الضرب والتعدي الجسدي واللفظي في العرض والشرف.
ورغم عرض الصيَّـادين للتصريح الإرتيري إلا أن المحقّقين السعوديين رفضوه وقرّروا بأنهم قبضوا على أفراد حوثيين، يتحدث عبد الدائم حول ذلك “لقد أحضروا شخصًا لا نعرفه، لهجته سعودية، وأمرونا بالاستدارة نحو الحائط، وطلبوا من هذا الرجل اختيار الحوثيين منّا، فاختار 9 أشخاص أنا واحد منهم وطفلين لا تتجاوز أعمارهم 11 عاماً وتم إخراجنا بدون ملابس تحت الشمس وبدون طعام على ظهر السفينة، وقاموا بتصويرنا، وتم فصل البقية ولم نعرف ما مصيرهم”.
بلا دليل إدانة ورغم رفض الطاقم الاتّهامات ونفي وجود أية علاقة لهم مع أنصار الله، اقتادت القواتُ السعودية تسعة صيَّـادين يمنيين إلى سجن بحرية جيزان بعد أن مرت بهم إلى ما يشبه مستشفى أُجبروا فيه على تناول قُرصين من الدواء! كما تحدث إلينا عبد الدايم.
سجونُ الظلام:
وصل عبد الدايم ورفاقُه إلى سجن بحرية جيزان، وبعد قضاء الليلة الأولى تم استدعاءُ عبد الدايم للتحقيق، ووُجهت له تهمة الانتماء لجماعة أنصار الله والعمل في تهريب السلاح إليهم، نفى عبد الدايم ذلك بشكل قاطع “أنا لا أنتمي لأي طرف أَو جهة وخرجتُ للصيد، ولا أعتقد أن أنصار الله بحاجتي، هم بغنىً عني وعن مساعدتي”.
حاول عبد الدايم استعطافهم، وضّح لهم أنه إنسان بسيط صيَّـاد في البحر له أسرة كبيرة من نساء وأراملَ هو المعيل الوحيد لهم، فكان رد الضباط السعوديين مستنكرين عدمَ ذهاب عبد الدايم إلى المناطق التي تحت سيطرتهم في الجنوب عدن أَو المكلا والقتال في صفهم، قال له الضابط السعودي: “لماذا لا تذهب مع الشرعية؟ اذهب مع الشرعية”.
أجابه عبد الدايم “ليس لي دخل بأي طرف، وأنا مواطن لا أؤيد الحرب أَسَاساً”، ومع كُـلّ ذلك أصر السعوديون على اتّهام عبد الدايم وتهديده وضربه للاعتراف بما ليس جُرمًا إلا في نظرهم.
بعد فترة احتجاز عبد الدايم في سجن بحرية جيزان، تم نقله إلى سجن أبو عريش (السجن الظلامي)، أسوأ فترة يحكي عنها عبد الدايم من مدة أسره، هي شهران قضاهما في سجن أبو عريش الذي يشبه في أساليب القائمين عليه سجن أبو غريب الأمريكي في العراق، يقول عبد الدايم: “بعد خمسة عشر يوماً في جيزان انتقلنا إلى سجن أبو عريش لمدة شهرين كان اليوم فيها”.
أنهينا سنة، لقد ظلت عيونُنا مربوطةً وأيادينا وأقدامنا مقيدة ووجوهنا موجهة للجدران، أعاني الآن بضعف البصر؛ بسَببِ ذلك، كنا نبكي من الجوع أَيْـضاً ولم نكن نحصل سوى على وجبة واحدة في اليوم”.
بعد أكثرَ من عشرين يوماً في أبو عريش، استُدعي عبد الدايم للتحقيق، وقام جندي سعودي بجلده بكابلات كهربائية حتى نزف جسده دمًا وانفجر باكيًا، فسخر الضابطُ السعودي منه قائلًا: لماذا تبكي؟ هل تبكي على أمك؟ أَو عمتك؟.
حكى عبد الدايم لنا هذه القصة وهو يستعرض آثارَ الجلد على جسده.
صرخات السجن:
سجنُ خميس مشيط كان السجنَ الأخير الذي تم نقلُ عبد الدايم ومجموعة من الأسرى إليه، ومع وصولهم إليه بدأ تحقيق جديد، جلس ضابط سعودي جديد مع عبد الدايم ووجّه إليه اتّهامَ امتلاك جهاز ملاحة بحرية اسمه (ماجلان)، يقول عبد الدايم: “هذا الجهاز يمتلكه كُـلُّ البحارين وهو جهازٌ يحدّد كافة الجزر في العالم في الخريطة، لكن الضابط السعودي اختار جزيرةً إيرانيةً وأخذ يسألني: لماذا توجد جزيرة إيرانية على الجهاز؟!”.
رد عليه عبد الدايم بأن الجهاز ليس دليل إدانة، وكرّر عليه حقيقة أنه ليس سوى الصيَّـاد لا أكثر ولا أقل، تغاضى الضابط عن الجواب، وسأل عبد الدايم عن المذهب الذي ينتمي إليه، أخبره عبد الدايم: “أنا سُنّي”.
الضابط: “كيف تصلي؟”.
عبد الدايم: “أنا أضمُّ عند صلاتي هكذا”.
الضابط: “أنت كاذب، أعيدوه إلى الزنزانة”.
وعاد عبد الدايم إلى زنزانة انفرادية بقي فيها ما يقارب شهر ثم تم نقلُه إلى عنبر جماعي، وهناك ذاق مع بقية الأسرى أنواع العذاب، منه الضرب والسب والشتم، ومنه إرغامهم على الزحف، الوقوف على رجل واحدة حاملين فُرُشَهم، منعهم من دخول الحمامات إلا لثوانٍ معدودة، بالإضافة إلى التجويع، الأمر الذي أثار الأسرى، ودعاهم لترديد الصرخة، مما يثيرُ الرعبَ والخوفَ في قلوب الضباط الذين يعودون لاسترضاء الأسرى، لكن سرعان ما يعود ظلمهم وجبروتهم ليظهروه بأبشع الصور التي تتجاوز حدود العقل والصبر كما يحكي عبد الدايم.
عفوُ الملك الكاذب:
يحكي عبدُ الدايم عن عفو ملكي سعودي شمله وبقية الصيَّـادين في العام الماضي، وتم الاعتذار منهم وإعطاؤهم مبلغ عشرة آلاف سعودي وإعادة قاربهم وإيصالهم إلى البلاد، وعلى أَسَاس هذا العفو تم نقلُ عبد الدايم ورفاقه إلى جيزان وبقوا هناك ثلاثة أَيَّـام، لكن نكثوا الوعد وأعادوهم إلى نقطة الصفر بعد أن سُحبت المبالغ التي أعطيت لهم، واقتادوهم مرة أُخرى لسجن خميس مشيط، وبمُجَـرّد وصولهم، قام ضباط سعوديون بإعادة التحقيق وتوجيه التهم بانتماء عبد الدايم والصيَّـادين لأنصار الله؛ بدعوى مطالبة لجنة شؤون الأسرى بالإفراج عنهم، ثم يأتي التناقُضُ بأن طالب الضباط السعوديون الأسرى بالتواصل بأسرهم وتوجيهها للضغط على لجنة شؤون الأسرى؛ مِن أجلِ إدراجهم ضمن كشوفات الأسرى في الاتّفاقيات والمفاوضات بين الطرفين.
يقول عبد الدايم بأنه رفض التواصُلَ مع أسرته في هذا الأمر، بالإضافة إلى فشل محاولاته في الاتصال الذي أجبر عليه؛ لأَنَّه لا يعتبر نفسَه أسيرًا من أنصار الله، حتى جاءه عرضٌ آخر بأن يتم الإفراجُ عنه لصالح ما يسمى بالشرعية وفي مناطقها، لكنه رفض وأصر على أن يتم إطلاقُ سراحه دون شرط أَو قيد، إلى أن تم إجبارُه بالتوقيع على ورقة تتضمن رغبتَه بتسليمه كأسير حرب محسوب على الجيش واللجان الشعبيّة وباتّفاق سياسي، يقول عبد الدايم: “لقد ضاق بي الحال، فوقّعت على الورقة، لقد كنت أدعو الله أن يَمُنَّ عليَّ بالموت، خُصُوصاً بعد تشديد التعذيب في الفترة الأخيرة، ومُنعنا من الصلاة وجُردنا من الملابس وأُجبرنا على الرقود فوق البلاط وتشغيل مكيفات باردة، وضرب أطرافنا وَأصابعنا”.
الحريةُ في صنعاء:
قبلَ عشرين يوماً تقريبًا من تحرير الأسرى، كان هناك إضرابٌ عن الطعام من قبل الأسرى؛ بسَببِ التعذيب وإعطائهم وجبةً واحدةً وغيرَ كافية في اليوم، كان الإضراب والصرخة هو وسيلةَ الأسرى الوحيدة للاحتجاج، ما دفع الضباط السعوديين لتطمين الأسرى بقرب الإفراج عنهم وتسليمهم، انتظر عبد الدايم ورفاقه مرورَ هذه الأيّام بفارغ الصبر، يقول بأنه شعر بأن الله سيبعثُه من جديد.
ويتحدث عن وصوله إلى صنعاء: “لقد وصلتُ صنعاء ولم يستطع أحدٌ من أسرتي السفر من الحديدة إلى هنا لاستقبالي؛ بسَببِ الظروف المادية، لكن الشعب وجميع المستقبلين كانوا كلهم كأُسرتي، عانقوني وساعدوني وأعطوني هاتفاً واتصلت بعائلتي وفرحنا حتى البكاء، لقد أخبروني أن لجنة الأسرى تحاول منذ وقت طويل المطالبةَ بإطلاقي لكن السعودية كانت تنكر وجودي!”.
خاتمة:
هكذا هو عِداءُ السعودية وشكل إنسانيتها تجاه اليمن واليمنيين، قصة عبد الدايم واحدةٌ من آلاف القصص التي تثبت وحشيةَ النظام السعودي الذي تمثل أمريكا وإسرائيل في عدائهما للدين والأمة، يناشد عبد الدايم الرديني اليمنيين بالوقوف صفًا واحدًا ضد النظام السعودي الذي يقصدُ إيذاءَ اليمني لهُويته، ويدعو المغرر بهم للعودة إلى رُشدهم والنظر بعين الوطنية والدين الحق ليظهرَ لهم موقف الضلال والظلم الذي لا يزالون يقفون بجانبه.
الأسيرُ الصيَّـادُ عاد إلى أُسرته، وعودته هي عودة السمك للماء بالنسبة له، لكنها بالنسبة لليمن تشبهُ عودةَ المطرِ للأرض، وَحكايات الأسرى المحرّرين مستمرة في صفحات المسيرة..