جمعة رجب واليمنيون
صالح مقبل فارع
شهر رجب له مذاق خاص عند العرب في الجاهلية وَالعرب بعد الإسلام وعند اليمنيين بشكل خاص.
كانت العرب قبل الإسلام تحترم هذا الشهر وتعظمه، وجعلته من الأشهر الحرم، فإذا كانت الحرب مشتعلة بين قبيلتين عربيتين في جماد الآخر مثلاً، يوقفون الحرب في رجب ويعتبرونه صلح لمدة شهر بدون عقد اتّفاقية صلح ويضع العربي سلاحه في البيت طوال شهر رجب، وعند دخول شعبان يعاودون الحرب، ويعتبرون الحرب وسفك الدماء في هذا الشهر جرما ومحرما لما يعلمون من قداسته.
وجاء الإسلام وأقر العرب على هذا وأثبت قدسية شهر رجب واعتبره أحد الأشهر الحرم، فالقتال فيه محرم، فقد قال تعالى: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم. إلا الجهاد فقد أذن الله تعالى لنا أن نجاهد فيه ولو سفكت فيه دماء، قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ، قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ، وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا، وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ، هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
* * *
تعظيم اليمنيين لرجب
نحن نعظم شهر رجب أكثر من أي شعب آخر، فبالإضافة إلى تعظيم الله له وجعله من الأشهر الحرم فَـإنَّنا لم نوحد الله ونسلم إلا في هذا الشهر، فقد أقيمت أول جمعة في اليمن في أول جمعة من رجب، وصدح أول أذان في اليمن يقول أشهد أن لا إله إلا الله في رجب، ودخل اليمنيون أفواجا في الإسلام بدءا من رجب، واعترفوا لله بالوحدانية ولمحمد بالرسالة في رجب، وتُليت آيات الله وكتابه وأقيمت الصلاة وأوتيت الزكاة بدءا من رجب، والتحق اليمنيون بمعسكرات الجهاد ولبوا نداء رسول الله من شهر رجب.
ولذلك نعظم هذا الشهر وأول جمعة من رجب، ويحق لنا ذلك، فهو عيد عندنا، ليس كعيد الاستقلال وطرد المحتلّين ولكنه عيد الدخول في الإسلام وطرد بقية الأديان وترك عبادة الأوثان والأصنام والالتحاق بمحمد وصحبه وإلى الأبد.
فنذبح في هذه الجمعة، الكباش ونلبس أحسن الزينة وننتظر لها بفارغ الصبر..
أسلمنا برسالة لرقة قلوبنا لم نحتج لجيوش وغزوات حتى نسلم كما فعل بقية الأعراب، ولم نعلن الحرب على رسول الله ونغزوه ونقتل أصحابه كما فعل الأعراب. بل أسلمنا بمُجَـرّد رسالة شفهية من رسول الله بلّغها ثُلّة من أصحابه وخيرة رجاله وعلى رأسهم علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وخالد بن الوليد فآمن اليمنيون جميعاً وذهبوا إلى رسول الله ملتحقين به ومجاهدين بين يديه ومستمعين لإرشاداته وليتعلموا دينَهم منه، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقبلين عليه قال: “أتاكم أهل اليمن هم أرق قلوبا وألين أفئدة، الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية”، ولا زالوا يتوافدون عليه فوجا تلو فوج وجماعات جماعات، فأنزل الله تعالى سورة النصر لانتصار الرسالة على عبادة الأوثان وفيها: “إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا”.
ففرح الرسول فرحا عظيما وقال فينا شتى الأحاديث مثل حديث المدد ونفس الرحمن وغيرها.
وهذه تعتبر أوسمة ونياشين علقها رسول الله على صدورنا، فأسلمنا مخلصين له الدين حنفاء.
فأوسمنا الله تعالى بوسام أرفع من الأوسمة السابقة بآيات تُتلى إلى يوم القيامة، وهدّد الله الصحابة بنا إن لم يؤمنوا فسيستبدل الله بدلاً عنهم نحن، فقد قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ، ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ). فقالوا: من هم يا رسول الله، قال: أهل اليمن.
فهذه الآية تعتبر أكبر وسام وأعظم شهادة من رب العزة لنا، فقد شهد الله بأننا نحبه ويحبنا وأذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ومجاهدين في سبيل الله.
ولكن بقدر ما هي وسام فخر وشرف لنا فهي تعتبر عبء علينا أَيْـضاً إذَا يجب أن نكون على قدر المسئولية التي حطها الله على عاتقنا بتبليغ دينه وتمثيله، ونكون عند حسن ظنه بنا فلا يكفي أن نستلم هذا الشرف ثم نبقى في بيوتنا ساكتين ونخالف جميع الأحكام الشرعية ونعصي الله ونوالي اليهود والنصارى وكل أعداء الإسلام، فإذا فعلنا هذا لن يبقى هذا الشرف منا، فسيسلب الله منا هذا الوسام ويتحول الحب إلى كراهية ولعنة أبدية تحل بنا إلى يوم القيامة، فإن لم نحافظ على هذا الحب وخالفنا وعصينا الله فسيكون مصيرنا كمصير بني إسرائيل، إذ أنه تعالى فضّلهم على العالمين في بادئ الأمر “يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضّلتكم على العالمين”، ثم لما خالفوه وعصوه سبحانه وتعالى سلب منهم هذا التفضيل ولعنهم وأدخلهم جهنم، (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ).
فلنكن على قدر المسئولية التي كلفنا الله بها، والرعاية التي أحاطنا الله بها.