بين مبادرة الرئيس المشاط و “المبادرة” الأمريكية: القوةُ مقابل “الإفلاس”
المسيرة | خاص
في خطابِه عام 2019 بمناسبة ذكرى ثورة 21 سبتمبر، أعلن رئيسُ المجلس السياسي الأعلى، مهدي المشاط، مبادرتَه الشهيرةَ بشأن وقف عمليات الصواريخ البالستية والمجنّحة والطيران المُسَيَّـر، مقابل وقف كُـلّ أشكال الاستهداف لليمن، وقد جاءت المبادرة في توقيتٍ مهم، عقبَ أَيَّـام من عملية 14 سبتمبر (توازن الردع الثانية) التي استهدفت مصافي بقيق وخريص وهزت النظام السعودي والعالم كله، لتفتح باباً جاداً وواقعياً أمام الرياض وواشنطن لإعادة التفكير في الطريق الوحيد للخروج من مأزقهما في اليمن.
رافقت المبادرة آنذاك رسالة مهمة وجّهها قائدُ الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، أكّـد فيها أنه “من مصلحة تحالف العدوان الاستفادة من المبادرة” لكن إذَا استمرار القصف والحصار والعدوان “فَـإنَّ الضربات الأكثر إيلامًا والأشدَّ فتكًا والأكبر تأثيراً ستصلُ إلى عمق مناطقهم وإلى أهم منشآتهم الاقتصادية والنفطية والحيوية، ولا خطوط حمراء في هذا السياق”.
ما بين تلك المبادرة، و”المبادرة” الأخيرة التي قدّمها المبعوثُ الأمريكي لليمن، وأعادت السعودية تقديمها، فروقٌ كبيرةٌ يمكنُ الاعتمادُ عليها في وضع تقييم دقيقٍ لوضع ميزان “القوة” الراهن، بما يشتمل عليه من أبعاد عسكرية وسياسة، وهناك أحداث ممتدة على مسافة قرابة عام ونصف عام بين المبادرتين، ستدعمُ هذا التقييم.
لقد عرض الرئيس المشاط وقفَ العمليات الصاروخية والجوية، بعد أَيَّـام قليلة من ضربة لم تدع مجالاً للشك أمام أي أحد، في أن صنعاء تمتلك قدرات عسكرية استراتيجية من شأنها أن تغيّر كُـلّ الموازين، حتى أن الولايات المتحدة والسعودية فضّلتا عدمَ الاعتراف بذلك، وقيدتا العملية كلها ضد مجهول، وبالتالي فَـإنَّ العرضَ جاء بالفعلِ من موقعِ مَن يمتلكُ المزيدَ من خيارات التصعيد التي “يحتاج” العدوّ لتجنبها.
بالمقابل، لا تحتوي “المبادرة” الأمريكية اليومَ على أي عرض “تحتاجه” صنعاء، فربط المِلف الإنساني بالملفات العسكرية والسياسية، لا يرقى حتى إلى مستوى “عرض”، فضلاً عن أن يكون “مغرياً” ويستحقُّ التفكيرَ به مثل وقف الضربات الصاروخية والجوية.
العرضُ الوحيدُ الذي تستطيعُ الولاياتُ المتحدة تقديمَه والذي يوازي في أهميته وقف الضربات الصاروخية والجوية هو: إنهاءُ العدوان ورفعُ الحصار، لكنها تعتبر هذا العرض بمثابة إعلان هزيمة، وهنا يبرز فرقٌ آخر بين المبادرتين، أَو بالأصح بين الموقفين الذين انطلقتا منهما، فصنعاءُ تستفيدُ من فاعلية خياراتها العسكرية للوصول إلى حَـلٍّ سياسيٍّ، مع أنها قادرةٌ على التصعيد والاتّجاه نحو مراحل أقسى وأشدَّ، أي أنها تعطي الأولويةَ لخيار السلام، لكن الأولَ على العكس من ذلك تماماً، لا تملِكُ رفاهيةَ الاختيار بين التصعيد والتوجّـه نحو الحل؛ لأَنَّ خياراتها العسكرية أثبتت فشلها؛ ولأنها لا ترى وقف العدوان “خياراً”.. إنها في مأزق.
هذا المأزِقُ عبّرت عنه “المبادرةُ” الأمريكية بشكل واضح، بتجاهلها المواضيع الرئيسية والواقعية التي ترتبط بالمفهوم الواسع والحقيقي للسلام، مثل وقف القصف والضربات، ولجوؤها إلى تفاصيلَ لا تكفي لأن يُبنى عليها أيُّ اتّفاق شامل.
ولأنها في مأزق، فقد حاولت الولايات المتحدة أن تستثمرَ تلك التفاصيل إلى أقصى حَــدٍّ، فجاءت “مبادرتُها” خارجةً تماماً عن سياق الواقع والمنطق، إضافة إلى كونها ابتزازاً واضحاً وصريحاً في المقام الأول، وهو الأمرُ الذي لم يكن موجوداً في مبادرة الرئيس المشاط التي جاءت واقعية وتناولت موضوعَ السلام من مفهومه الرئيسي كنهاية واضحة للحرب، لا كغطاءٍ للمراوغة والخداع، مع أن صنعاء لو أرادت استخدامَ ضربات الردع للابتزاز، وليس للرد المشروع، ستكون فرصتُها أكبرَ من الفرصة السعودية وأمريكا اليوم.
لقد قدم الرئيس المشاط مبادرتَه في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة والسعودية تتهربان من الاعتراف بمصدر الصفعة المدوية التي تلقتاها في بقيق وخريص، فيما تقدم واشنطن والرياض “مبادرتهما” اليوم وهما تقرَّان بالعجز الكامل عن مواجهة الضربات المتصاعدة التي تطال منشآت أرامكو من أقصى شرق المملكة إلى أقصى غربها، ومع ذلك تتعامل صنعاء مع مِلف السلام بجدية، فيما يستخدمه السعوديون والإماراتيون للابتزاز.
هذه الفروقُ تكشفُ بوضوح أن كفةَ ميزان “القوة” تميل لصالح “صنعاء” عسكريًّا وسياسيًّا، وأن أقصى ما يمكن للولايات المتحدة والسعودية تحقيقه بدون وقف العدوان ورفع الحصار، هو إحداث ضجيج ما لا يكفي حتى لصرف الأنظار عن مراقبة هزيمتهما المستمرّة.