السيد عبدالملك الحوثي في رمضانيته الـ7:
الجرائم لا تنحصر في تجاوز نواهي الله بل عصيان أوامره من أكبر الجرائم التي يغفل عنها الكثير
الحديث القرآني عن القيامة فيه حافزٌ للعمل وما يوقظ الإنسان من الغفلة والإهمال والتفريط والتقصير
القيامة ستأتي بغتة في وقتٍ غير متوقع، المهم الاستعداد لها، سواءً أتت وأنت على قيد الحياة أَو كنت قد مت، فمن مات قامت قيامته، لم تعد لديه أية فرصة
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحَمْدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَـلِكُ الحَـقُّ المُبِيْن، وأشهَدُ أن سَيِّـدَنا مُحَمَّــدًا عَبْـدُه ورَسُــوْلُه خَاتَمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إِبْـرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْـرَاهِيْمَ إنك حميدٌ مجيدٌ.
وارضَ اللَّهُم برِضَاك عن أَصْحَابِهِ الأَخْيَارِ المنتجَبين وعَنْ سَائِرِ عِبَادِك الصالحين.
اللَّهُّم اهْدِنَا، وَتَقَبَّــــلَ مِنَّـا، إِنَّــكَ أَنْتَ السَّمِيْعُ العَلِيْمُ، وَتُبْ عَلَيْنَا، إِنَّــكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيْــمُ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ والأخواتُ..
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.
تحدثنا على ضوءِ ما قرأناه من الآياتِ المباركةِ من سُورة الرحمن، في المحاضَرة الماضية، والتي قبلها، ولاحظنا كم عرض اللهُ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” علينا من النِّعَمِ العظيمة، التي أسبغها علينا برحمتِه، وفضلِه، وجودِه، وكرمه، وهي نعمٌ عظيمةٌ جِـدًّا، وهي التي من خلالها يمكن لنا أن نحقّق لأنفسنا -بتوفيق الله- الخيرَ، والرشدَ، والسعادةَ، والفلاحَ، والفوزَ، والخيرَ في الدنيا والآخرة، ونجدُ كُـلَّ تلك النعم، المعنوية منها، وفي مقدمتها: القرآن الكريم، التعليم، والعدل، والمادية، وهي كثيرةٌ جِـدًّا، هي نعمٌ على أرقى مستوى، نعمٌ عظيمةٌ جِـدًّا، وهيَّأ اللهُ لنا من خلال هذه النعم أن تستقيمَ حياتُنا عندما نلحظها بشكلٍ متكامل، نلحظ مع النعم المادية النعم المعنوية، ما لم، فسيكون واقعنا واقعَ مَن يكذِّب بهذه النعم، من يكفر هذه النعم، من يقابل إحسان الله إليه بالإساءة إلى الله المنعم الكريم “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، وهذا العرض لهذه النعم، وهي نماذج عامة وعظيمة، وكلنا نراها، وندركها، وندرك احتياجنا الكبير إليها، وانتفاعنا الكبير بها.
التأثير لهذه النعم عندما نستذكرها، وعندما نستعرضها، يفترض أن يكون في نفسية الإنسان: انشداداً إلى الله، ومحبةً لله، وفي الواقع العملي: استجابة عمليةً لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” بكل رغبة، وبانطلاقةٍ جادة، والإنسان يدرك أنه عندما يستجيب لله، فهو يستجيب لله فيما هو خيرٌ له هو، ولذلك يقول الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} بعد كُـلّ هذه النعم، والتي في آخرها أنه “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” مع كُـلّ ما قد أعطى، ومع كُـلّ ما قد منَّ به على هذا الإنسان، وهيَّأ له في الأرض، هو “جَـلَّ شَأْنُـهُ” جاهزٌ أن يستجيبَ له عند أي طارئ، وَإذَا سألته فهو يعطيك ما هو الأفضل والأنفع والأصلح لك أنت، واستجابتك له ليست فيما هو بحاجةٍ إليه “جَـلَّ شَأْنُـهُ”؛ لأَنَّه الغني عنك، وعن أعمالك؛ إنما هي استجابة فيما تحتاجه أنت، فيما هو خيرٌ لك أنت، فيما ينفعك أنت.
إذا لم ينفع فيك كُـلُّ هذا العرض لهذه النعم العظيمة، وهذا التذكير بهذه النعم العظيمة، ولم يكن لأيٍّ منها أثره فيك، فهناك الوعيد الشديد؛ لأَنَّك حينئذٍ ستكونُ في واقعِ المكذِّب بهذه النعم، المتنكِّر لها؛ ولذلك يقول الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ}[الرحمن: الآية31]، هذا وعيد شديد، إذَا لم ينفع فيك التذكير بالنعم، فهناك أَيْـضاً وعيدٌ شديدٌ، وهو وعيدٌ رهيبٌ جِـدًّا، هذا الوعيد من الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” المقتدر، القهار، جبار السماوات والأرض، الذي هو على كُـلّ شيءٍ قدير.
وأتى الخطابُ في هذا الوعيد: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} للجن والإنس؛ لأَنَّ السورة المباركة، سورة الرحمن -كما قلنا- تخاطب الجن والإنس، ولهذا يقول: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية32]، هنا يقول: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ}، هذا وعيد باليوم الآخر، بالآخرة، بالحياة الآتية، والتي تَذَكُّرها مهمٌ جِـدًّا، كعاملٍ رئيسيٍ ومهمٍ في الاستقامة في هذه الحياة.
اللهُ “جَـلَّ شَأْنُـهُ” عندما أتى بهذا الوعيد الرهيب: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ}، وهو “جَـلَّ شَأْنُـهُ” الذي لا يشغلُه شأنٌ عن شأن، لا يعني ذلك أنه انشغل عن محاسبة عباده في هذه الدنيا بأشياء أُخرى، بتدبير أمور هذا الكون، وهذا العالم، وهذا الملكوت الواسع، لا؛ إنما لأَنَّه جعل مرحلة الحساب، وتوفية الأجور على الأعمال، هي في الآخرة، هي تلك المرحلة القادمة، والحياة الآخرة.
وعندما يقولُ: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ}، عندما تأتي تلك المرحلة، عندما يأتي اليوم الآخر، عندما تأتي القيامة، تتحول المرحلة بكلها إلى مرحلة حساب وجزاء، ويتجه التدبير الإلهي على هذا الأَسَاس لمحاسبتنا.
الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” بقدرته، وهو على كُـلّ شيءٍ قدير، بعلمه، وهو المحيط بكل شيءٍ علماً، {لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلَا فِي السَّمَاءِ}[آل عمران: من الآية5]، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر: الآية19]، يعلم بكل ما نعمله، من مثقال ذرةٍ في الخير، أَو مثقال ذرةٍ في الشر، لا يخفى عليه شيءٌ مهما كان صغيراً، أَو كَبيراً، أَو كَثيراً، أَو قليلًا، عندما يتجه بتدبيره “جَـلَّ شَأْنُـهُ” في مرحلةٍ تصبح بكلها مرحلة حسابٍ وجزاء، فمعناه: أنَّ هذا التدبير الإلهي، وهذا الترتيب الإلهي للحساب والجزاء، سيستوعب كُـلّ شيء، وسيحيط بكل شيء، معناه: أنَّ الحساب سيكون دقيقاً جِـدًّا، حساب دقيق على صغير الأعمال وكبيرها، على القليل والكثير منها، على الصغير مهما صغر، وعلى الكبير مهما كبر، عندما يتجه كُـلّ ذلك التدبير الإلهي؛ فعملية الحساب ستكون دقيقة، والترتيبات ستكون مرعبة، وهائلة، ومخيفة جِـدًّا، ما أصغرك أيها الإنسان عندما تقف وأنت ذلك الكائن الصغير، المخلوق، العبد، الضعيف، أمام كُـلّ هذا التدبير الإلهي، أمام كُـلّ هذا الحضور في تدبير الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، بعلمه، وقدرته، وإحاطته، وتدقيقه! حالة رهيبة جِـدًّا، وأمر رهيب جِـدًّا.
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ}، والكل سيكون في مقام الضعف، والعجز، والاستسلام التام، من الجن والإنس بكلهم.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، من نعمة الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” أن يذكِّرك هنا بما سيكون عليه واقعك في الآخرة، أن يذكِّرنا بهذا الحدث العظيم، بهذا اليوم الرهيب، بهذه المرحلة التي هي قادمةٌ حتماً، وقادمةٌ قريباً، والحديث عن القيامة في القرآن الكريم حديثٌ واسعٌ جِـدًّا، شمل الكثير من التفاصيل الدقيقة، والأحوال المتنوعة والمختلفة، وفيه الموعظة الكافية، والعبرة الكبيرة، لكل إنسان، فيه ما يوقظ أي إنسان من غفلته إن التفت إلى ذلك، فيه ما يزجر الإنسان، فيه ما يردع الإنسان عن حالة الغفلة والإهمال، والتفريط والتقصير، فيه ما يكون حافزاً للإنسان إلى العمل بدافع الرجاء فيما عند الله، وبدافع الخوف من عذاب الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”.
عندما نجد هذا التعبير، فوراءه أَيْـضاً أحداث كونية كبيرة، {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} وراءه أحداث هائلة جِـدًّا، وسيأتي الحديث عنها.
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}؛ لأَنَّ تكذيبَك بالنعم؛ لأَنَّك عندما لا تشكر هذه النعم، ولا تهتدي، ولا تستجيب لله فيما أنت بحاجةٍ إليه من الهدى، ويكون واقعك واقع المكذِّب، فأنت ستصل إلى العذاب، وسيكون واقعك في الآخرة هو واقع الهالك، الخاسر، الخائب، الذي يكون مصيره العذاب الأبدي والعياذ بالله.
{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرض فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}[الرحمن: الآية33]، الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” عندما قال في كتابه الكريم هذه الآية المباركة: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ}، لا يعني ذلك أنهم خارج إطار سيطرته، أَو خارج إطار مُلكه وسلطانه، هو المسيطر، هو القاهر فوق عباده “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، الكل في قبضته، الكل في إطار سلطانه، لم يكونوا خارج إطار سلطانه ومملكته، أَو خارج إطار سيطرته ونفوذه وقدرته، هو المسيطر على هذا العالم، هو كُـلِّ ما فيه هو في إطار سلطانه وقبضته وسيطرته “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، وهو المحيط بعباده قدرةً وعلماً.
فعندما قال: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ}، لم يكونوا خارج إطار سلطانه وقهره، ولهذا يذكِّرنا، يذكرنا جميعاً كجنٍ وإنس، بأننا تحتَ سيطرته التامة في الدنيا والآخرة، في عالم الدنيا، وفي عالم الآخرة، فيقول: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرض فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}، هل هناك عالمٌ آخر خارج عالم الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، خارج مملكته، خارج سلطانه، أرضٌ لم يخلقها الله، أَو موطنٌ لم يخلقه الله، أَو بقعةٌ لم يخلقها الله، يمكن للإنسان أن يلتجئ إليها، ويكون في حماية إلهٍ آخر؟ لا، كُـلّ هذا العالم بكل ما فيه هو مملكة الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، هو عالمه، تحت سلطانه وقهره وسيطرته التامة، ليس هناك أي مهرب يمكن أن يهرب إليه الإنسان، أي ملاذ، أي ملجأ يمكن أن يلتجئ إليه، فيخرج من حدود سيطرة الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، وملكه وسلطانه، وقهره وهيمنته، لا يوجد أي مكانٍ آخر، ولا أي إلهٍ آخر، له عالمٌ آخر، يمكن أن تلتجئ إليه، أَو تفر إليه، أَو يمكن حتى لمجموع البشر، ولمجموع الجن، أن تتظافر جهودهم للالتجَاء إليه، والفرار إلى مملكته، وإلى مكانٍ آخر خارج هذا النفوذ الإلهي والسيطرة الإلهية التامة، لا مفر ولا ملجأ من الله إلَّا إليه.
والإنسان بشكلٍ عام، والإنس والجن بشكلٍ عام لا يستطيعون التصرف، ولا العمل، ولا التحَرّك، إلَّا في حدود ما مكَّنهم الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، وفي حدود ما سخَّره لهم، على مستوى العلم، وعلى مستوى القدرة، هذه هي حدود تصرف الإنس، وحدود تصرف الجن: في حدود ما مكَّنهم فيه، وما سخَّره لهم، لا يستطيعون أن يتجاوزوا ذلك أبداً، فهم تحت قهر الله وهيمنته وسلطانه، ولا يستطيعون الخلاص عن ذلك أبداً، ولا الفرار من ذلك أبداً، ولهذا قال: {لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}، فأنتم في حدود ما تتصرفون فيه وتعملون فيه، لا تستطيعون أن تتجاوزوا ما سخَّره الله لكم، ما وهبكم من العلم، والقدرة، والتمكين، والإمْكَانات، والوسائل، والإمْكَانات، لا تستطيعون أن تتجاوزوا حدود ذلك، أنتم تحت سلطة الله، هيمنته، سيطرته، ملكوته، لا تستطيعون أن تفروا.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية34]، فأدركوا نعمة الله عليكم، واشكروه على نعمه؛ لأَنَّه لا مبرّر للإنسان أن يسعى للتهرب أصلاً، لا يستطيع ذلك، ولا مبرّر له في ذلك، الله منَّ علينا، أنعم علينا، أحاطنا بنِعمِه العظيمة والواسعة، ليست هناك أية مشكلة من جانب الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، الذي أعطانا: هو النعم، الذي أسبغه علينا: هو النعم المعنوية والمادية، والذي يأمرنا به: هو ما فيه خيرٌ لنا، وصلاحٌ لنا، لا مبرّر للإنسان أن يتهرَّب من الله، ولا أن يتهرَّب مما أمر الله به، مما أرشده إليه، من منهجه العظيم، الذي به صلاح حياتك أنت، واستقامة حياتك أنت؛ إنما هو النكران (النكران للنعم)، التنكُّر لنعم الله، لرحمته، لفضله.
{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ}[الرحمن: الآية35]، الإنسان لا يستطيع أن يدخل في مواجهة مع الله، الجن والإنس لا يستطيعون -حتى مع بعض- أن يتعاونوا ليدخلوا في حربٍ مفتوحة، وصراعٍ مباشر، ومواجهة مباشرة مع الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، لا يستطيعون ذلك، كائنات ضعيفة، عاجزة، قدرتها في حدود ما منحها الله ومكَّنها فيه، فيمكنها فورًا أن تنتهيَ وأن تُسحقَ بعذاب الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، ولا يمكن -الجميع- أن يخوضوا معركةً منتصرة في مواجهة الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، الكل في مقام العجز والضعف أمام جبروت الله وقدرته على كُـلّ شيء، كائنات ضعيفة، من أضعف الكائنات، من أضعف الكائنات.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية36]، ولا مبرّر لذلك: أن يفكِّر الإنسان أن يدخل في مواجهة مع ربه وخالقه، الكريم، المنعم عليه، ما الذي يبرّر لك ذلك؟ ما الذي يدفعك إلى أن تكون في مشكلة مع الله، أن تكون في تباين مع منهجه العظيم، مع رحمته العظيمة المعنوية والمادية؟ ما الذي يدفعك إلى ذلك؟
{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}[الرحمن: الآية37]، إذَا أتت أحداث يوم القيامة، وهي آتية، وهي ستحصل، وهذا الأمر آتٍ لا بدَّ منه، ولا ريب فيه، سيتبين حينها عجز كُـلّ البشر، هل سيستطيعون أن يردوا هذا اليوم؟ هل سيتمكّنون أن يعملوا على تفادي تلك الأحداث والمتغيرات؟ السماء ستنشق، هل سيستطيع البشر أن يتدخلوا، وأن يعملوا على أن تلتئم لهم من جديد، وألَّا يحصلَ هذا الانشقاقُ فيها، الذي هو خراب، خراب للسماء والأرض، ودمار هائل يأتي إلى السماء والأرض؛ تمهيداً لهذه المرحلة القادمة؟ الكل في موقف العجز والضعف، هي أحداث هائلة، رهيبة جِـدًّا، ومرعبة جِـدًّا، والبشر والجن كلهم عاجزون عن أن يعملوا شيئاً لتفاديها، أَو للحيلولة دونها.
{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}: يتغير لونها، ويأتي هذا في إطار تدميرها، وتدمير هذه الأرض التي نحن عليها، هذه الأرض التي وضعها الله لنا، وهيَّأ لنا فيها كُـلّ ما نحتاجه من متطلبات حياتنا، وجعلها مستقرةً لحياتنا، غير مضطربة، وهيَّأ لنا في جغرافيتها، وفي بيئتها، وفيما أودع فيها من النعم، ما تستقيم به حياتنا، يتغير واقعها تماماً، في يوم القيامة تشهد تدميراً هائلاً، وزلزالاً عظيماً، ودكاً يغيِّر كُـلّ معالمها، كُـلّ معالمها، لا يبقى عليها جبال، الجبال تنسف، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا}[طه: الآية105]، أي أحداث هائلة جداً! أي واقعٍ آنذاك والجبال بكلها تنسف، هذا الدمار كيف سيكون صوته، أثره، هيبته، الخوف والرعب منه؟ الله قال عن يوم القيامة: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا}[المزمل: من الآية17]، حدث رهيب جِـدًّا.
جبل واحد يندك بكله، حدث هائل جِـدًّا.
زلزال في منطقة محدودة يمكن أن يكون مرعباً جِـدًّا للناس، يمكن أن يدمّـر مدناً بأكملها، يمكن أن يكون له تأثير كبير على حياة الناس، وأن يموت؛ بسَببِه الكثير من البشر، وأن تكون حالة الرعب منه إلى حَــدّ كبير.
رياح شديدة يمكن أن تخيف البشر، يمكن أن تغيِّر… أحداث كثيرة يمكن أن تزعزع حياة الناس في منطقة معينة.
أي كارثة من الكوارث، بركان في منطقة معينة يمكن أن يتسبب بنكبة كبيرة لمنطقة بأكملها.
مثل هذه الأحداث الجزئية، المحدودة، البسيطة، مقارنةً بأحداث وأهوال يوم القيامة، يمكن أن تخيف البشر، أن تزعجهم، أن تؤثِّر على حياتهم، أن تتسبب بموت الكثير منهم، أن يخسروا؛ بسَببِها مساكنهم، ومستقر حياتهم.
أمَّا ذلك الحدث فهو حدثٌ شامل، ليس حدثاً جزئياً، يختص بمنطقة هنا، أَو دولة هنا، أَو بلد هناك، هو دمارٌ شامل، يشمل كُـلّ المعمورة، وأكثر من ذلك، كُـلّ الأرض، ودمار هائل، دمار كلي، تُنسَف به كُـلّ الجبال، وتتحول إلى هباء يتطاير في الجو، وتفجَّر به كُـلّ البحار، فلا يبقى منها قطرة ماء واحدة، وتدك الأرض به دكاً هائلاً وعنيفاً، لدرجة أنها تتغيرُ حتى في هيئتِها وفي شكلها، {وَإِذَا الأرض مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ}[الانشقاق: 3-4]، الأرض تتحول كما قال عنها: {قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا}[طه: 106-107]، مستويةً بشكلٍ تامٍ، تتحول إلى عرصةٍ واحدة، وساحةٍ واحدة؛ لمهمةٍ محدّدة: هي الحشر فيها، والحساب عليها، حدث رهيب جِـدًّا، البشر سيكونون عاجزين عن أن يعملوا أي شيء للحيلولة دون ذلك.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية38]؛ لأَنَّ تكذيبك بالنعم، وتنكُّرك لها، تنكُّرك لهذه النعم العظيمة، وفي مقدمتها القرآن، سيكون له تأثير على مصيرك آنذاك، وعلى مستقبلك الآتي حتماً.
في ذلك اليوم، بعد كُـلّ هذه الأحداث الهائلة، التي في بدايتها يموت كُـلّ الذين على قيد الحياة في الأرض، كُـلّ الذين كانوا عندما أتت القيامة أحياءً يموتون بكلهم، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرض إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}[الزمر: الآية68]، في البداية يموت الذين كانوا آنذاك على قيد الحياة، ومتى ستأتي؟ ومتى هو آنذاك؟ لا أحد يعلم، إلَّا الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”.
القيامة ستأتي بغتة، ستأتي بغتة، ستأتي بشكلٍ مفاجئ، في وقتٍ غير متوقع، ولذلك من المهم الاستعداد لها، سواءً أتت وأنت على قيد الحياة، أَو أتت وأنت كنت قد مت، فمن مات قامت قيامته، لم تعد لديه أية فرصة أُخرى، ومرحلة الموت إلى القيامة هي مرحلة سريعة، تعتبر سريعة، الإنسان يتفاجأ، وكأنه لم يكن إلا عقب لحظة، أَو وقت يسير جِـدًّا، من حين مات إلى حين بعث.
ولهذا الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” أنذرنا في القرآن، وذكرنا بهذه الحقائق، قال عن القيامة، عن الساعة: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً}[الأعراف: من الآية187]، في وقتٍ غير متوقع، الناس فيه يمارسون حياتهم الطبيعية، الكثير منهم في غفلة تامة عن هذه الأحداث، وعن هذا المستقبل الآتي، لا يأبهون به، لا يلتفتون إليه، لا يستعدون له، فيأتي بشكلٍ مفاجئ.
ثم عندما تأتي عملية البعث، ما بعد النفخة الأولى، {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}[الزمر: من الآية68]، يحشر الله جميع الخلائق، البشر بكلهم أجمعين، الجن والإنس، الكل يحشر، لا يمكن للإنسان -لأي إنسان منا- أن يتهرب من هذا الحشر، ومن هذا البعث، الله لا ينسى أحداً أبداً، {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا}[الكهف: من الآية47]، الكل، أنت وكل الخلائق، أنت وكل الناس، الجميع سيحشر.
ولا يمكن لأحدٍ أن يتخفى، أَو أن يتهرب، أَو أنه سيستفيد من تلك الكثرة الهائلة للبشر، ليخفي نفسه هنا، أَو يدس نفسه هناك، لا، حتى الأرض ليس فيها مخبأ، أصبحت ساحة وعرصة مكشوفة، الساهرة: ساحة مكشوفة تماماً، معرَّاة تماماً، لا جبال، ولا أشجار، ولا ملاجئ، ولا مخابئ، ولا أي شيء، مع أنه لا يمكن لشيءٍ أن يخفيك من الله أبداً، تحشر رغماً عنك.
ولا يمكن أن تمتنع من الحضور، لا يمكنك ذلك، {وَإِنْ كُـلّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}[يس: الآية32]، لا يمكنك أن تعتز بنفسك، بقدرتك، بأنك إنسان تعتبر نفسك قوياً، أَو أنك لك صفة معينة: أنت ملك، أَو أمير، أَو قائد، أَو زعيم، أَو شيخ، أَو بأي صفة معينة، فتمتنع عن الحضور، لا أحد يقدر عن الامتناع إلى ذلك الحضور، الكل سيحضر، خاشعاً، خاضعاً لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”.
ومع عملية الحشر يأتي الحساب؛ لأَنَّه يوم الفصل، ليس مُجَـرّد اجتماع عادي، أَو مهرجانٍ معينٍ، أَو مناسبة عادية، هو يوم الفصل، هو يوم الحساب.
عندما يأتي يوم الحساب، ليست المسألة تحتاج إلى عمليات تحقيق واسعة مع كُـلّ شخص، لمحاولة معرفة ماذا عمل، وهل هو الذي فعل كذا، أَو تصرف كذا، أَو لمحاولة الوصول به إلى الاعتراف بما عمل، الله يقول “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ}[الرحمن: 38-39]، يومئذٍ، وهو اليوم الذي سيأتي حتماً، تحشر فيه أنت، تبعث فيه أنت، وكأنه يدور على رأسك أنت، يوم القيامة يومٌ عظيمة، يومٌ مهم، يومٌ كبير، كُـلّ واحد وكأنه يدور على رأسه، أحداثه سترى وكأنها تتجه إليك أنت بشكلٍ مباشر، والله يقول عن ذلك اليوم: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ}، لا يحتاج الله إلى أن يحقّق معك لكي تعترف بأعمالك، أَو لكي يطلع على أعمالك، عندما يحشر الناس صحائفهم، وكتب أعمالهم جاهزة، فيها كُـلّ الذي قد عملوه، وأنت عندما تبعث وتحشر ستؤتى بكتابك، يؤتى إليك بكتابك، بصحيفة أعمالك، فيها كُـلّ الذي قد عملته، وإن كان مثقال ذرةٍ من الشر ستجده موثقاً، وعلى نحوٍ لا يمكنك أبداً أن تقنعهم بأن هذا كان غير صحيح، أَو أي شيءٍ من هذا القبيل، لا يمكن أبداً.
الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” أكّـد هذه الحقيقة، الله يقول: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء: الآية14]، أنت، انظر إلى ما عملت، شاهد كُـلّ الذي قد عملته في حياتك، مما كنت لا تكترث للكثير منه، مما كنت تفعل بعضه وأنت مبتهج، وأنت مرتاح، وأنت مستهتر، وكأنك لن تجازى ولن تحاسب، مما كنت تعمل الكثير منه بكل جرأة ووقاحة، وكأنك لن تقف يوماً ما ذلك الموقف، للحساب والسؤال والجزاء، موقف عظيم، مقام رهيب جِـدًّا.
تؤتى كتابك، إما بيمينك إن كنت من الشاكرين لله على نعمه، من الذين شكروا هذه النعم، واستجابوا لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” فيما هداهم إليه، فيما أمرهم به، فيما وجههم إليه، ممن شكروا الله وأحبوه على نعمه.
أو أنك ستؤتى كتابك بشمالك والعياذ بالله، وهي حالة الخيبة والخُسران، حالة العصاة، والمفرطين، والمفرطين، والمستهترين، والذين تخاذلوا عن الاستجابة لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، حالة رهيبة جِـدًّا، في صحيفة أعمالك كُـلّ ما عملت، موثق بشكلٍ تام، فلا حاجة لسؤالك لكي يعرفوا ماذا عملت.
في الدنيا قد يشتبه بمجرمٍ معين، أَو بشخصٍ معين، اشتباهاً، ثم تأتي عملية التحقيق، في محاولة لاكتشاف ما إذَا كان هو الذي عمل وعمل وفعل.
أما هناك فلا حاجة لذلك، كُـلّ الأعمال موثقة، إذَا أتت أسئلة، فهي أسئلة توبيخ، أسئلة تبكيت، أسئلة تحسير، من هذا القبيل أسئلة للاستنكار عليهم، للتوبيخ لهم، للتبكيت لهم؛ أما للاستعلام، لا حاجة، للاعتراف، لا حاجة، أنت في ذلك المقام ستشهد عليك حتى جوارحك، حتى أعضاؤك، {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[يس: الآية65]، ويقول عنهم أيضاً: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ}[فصلت: من الآية20]، تشهد عليك حتى جوارحك، لا حاجة إلى عمليات تحقيق مطولة.
{فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (40) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، لتدري، لتعرف، لتفهم، أنك عندما تتعامل مع هذه النعم، ويكون بشكلٍ سلبي، ويكون واقعك واقع المكذب، أن هذا سيصل إلى صحيفة أعمالك، الله قد أعطاك في هذه الدنيا الفرصة، منَّ عليك بالنعم، وأعطاك الفرصة إلى أن تكون حتى صحيفة أعمالك مبهجةً لك، أن تكون بالشكل الذي تسر بها، تفرح بالاطلاع عليها، تبتهج، تفخر، وتشعر بالسرور، وتمتلئ بالسرور، أن تقول حتى للآخرين: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}[الحاقة: 19]، هذا لو كنت تستشعر هذا الموقف، لو كنت تحسب حسابه.
الذين حسبوا حسابَ ذلك المقام قال عنهم، وعن الواحد منهم: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ}[الحاقة: الآية20]، كنت أستشعر أنني سألقى هذا اليوم، وسأصل إلى هذا اليوم، فعملت الأعمال الصالحة، استجبت لله، فيما هو خيرٌ لي أصلاً في الدنيا والآخرة.
أما من كان يستهتر، من كان لا يبالي، من كان يتبع هواه في هذه الحياة، يتصرف وفق مزاجه، وفق أهوائه، وفق نفسياته، وفق عقده، بعيدًا عن الالتزام بهدى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، فخسارته كبيرة.
في ساحة الحساب، بعد توزيع الصحف، بعد اكتمال مرحلة الحساب، يأتي الجزاء، يأتي الجزاء، والانتقال، وأكثر البشر، الأغلبية الساحقة من بني آدم، الأغلبية الساحقة من البشر -وللأسف الشديد- سيخسرون، سيهلكون، سيكون مصيرهم إلى النار، ولهذا يقول الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}[يس: 60-62]، يقول عن أهل الجنة: {ثُلَّةٌ مِنَ الأولينَ} عن أصحاب اليمين منهم {وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخرين}[الواقعة: 39-40]، يقول عن السابقين: {ثُلَّةٌ مِنَ الأولينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخرين}[الواقعة: 13-14]، وهكذا، قلة قليلة، الأغلبية الساحقة اتبعوا أهواءهم، تصرفوا وفق أهوائهم، استهتروا بمسؤولياتهم.
آنذاك تصبح هناك علامات واضحة للذين مصيرهم إلى جهنم، علامات واضحة حتى في أشكالهم، حتى في ألوانهم، ويصبحون بشكلٍ مميزٍ ومعروف، {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ}[يس: الآية59]، ثم تبدأ عملية الانتقال بهم، النقل الإجباري، عن غير اختيارٍ منهم ولا رغبة، النقل الإجباري إلى جهنم والعياذ بالله.
{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ}، بعلاماتهم الواضحة، التي قد ميزتهم، {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ}[الرحمن: الآية41]، ينقلون إجباراً ودفعاً، من ساحة المحشر إلى جهنم، ويؤخذون بنواصيهم، بمقدمة رؤوسهم وشعر رؤوسهم، وبأقدامهم، بطريقةٍ مهينة، الذي يأخذهم هو زبانية العذاب، (زبانية العذاب): الشرطة المعنية بأمورهم ونقلهم إلى جهنم، الشرطة الإلهية من ملائكة الله، أقوياء وأشداء، وبدون رحمة، وبكل عنف، لا يستطيع أحد أن يقاومهم، أن يمتنع منهم، أن يصارعهم، أن يفعل شيئاً، سيكون في حالةٍ من العجز التام والضعف.
ويؤخذ رغماً عنه، بهذه الطريقة المهينة والقاسية والموجعة، وكله حسرات، وكله خوفٌ ورعبٌ قد ملأ قلبه ومشاعره؛ لأَنَّه يعرف إلى أين سيؤخذ، إلى أين سيؤخذ.
{بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، من رحمة الله أن يذكرك هنا في الدنيا، كيف سيكون واقعك في الآخرة إن لم تشكر نعم الله، إن أنت تنكرت لنعمه وفضله عليك.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، هذه جهنم، نعوذ بالله من جهنم، وما أدراك ما جهنم! أمر رهيب جِـدًّا، الإنسان عندما يعاينها، جهنم مخيفة حتى عندما نسمع عنها، من يتأمل آيات الله في القرآن الكريم وهي تصف جهنم، تصف أنواع العذاب فيها، يقشعر جلده، يخشع خوفاً من الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، خوفاً من عذاب الله “جَـلَّ شَأْنُـهُ”، فكيف إذَا عاينها الإنسان، إذَا شاهدها، أمر رهيب جِـدًّا، خوف رهيب جِـدًّا.
هم عندما يعاينوّها، حتى وهي لا تزال على مسافةٍ بعيدة، يكون مشهدها رهيباً جِـدًّا ومخيفاً للغاية، {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا}[الفرقان: الآية12]، أصوات مرعبة جِـدًّا، أصوات مخيفة جِـدًّا، ومشهد لتسعرها، والتهابها، ونيرانها، وتوهجها، مرعب جِـدًّا، ومخيف جِـدًّا، مخيفٌ للإنسان لو كان عذابه أن يدخل في فرن من أفران هذه الدنيا، ما بالك بعالم كله من سخط الله وغضب الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، مما يجلي غضب الله وقدرته وجبروته.
{هَذِهِ جَهَنَّمُ}، عندما يعاينها الإنسان، يشاهدها، ويرى أنه متجهٌ إليها، وأنه ينقل إليها، وأنه سيلقى به فيها رغماً عنه، كيف هي حسراته؟! كيف هي آلامه؟! كيف هو خوفه؟! كيف هو قلقه؟! كيف هو انزعَـاجه؟! كيف هو عذابه النفسي؟! كيف هو ندمه الشديد، الذي يجعله يعضُّ على أنامله؟!
ومن هم المجرمون؟ المجرمون ليس فقط من ذهب لارتكاب أبشع الجرائم، بارتكابه لها، وتعديه لحدود الله، المجرمون أَيْـضاً من فرطوا في طاعة الله.
إما أن تعصي الله فيما نهاك عنه، فتتجاوز حدوده، هذا نوعٌ من المعاصي.
وإما أن تعصيَ الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” بتفريطك فيما أمرك به، وهذه من المعاصي الخطيرة، هذه من الجرائم الخطيرة، التي يتهاون بها الكثير من الناس، البعض من الناس قد يقول: [الحمد لله، أنا لا أشرب الخمر، أنا لا أرتكب الزنا، أنا لا أقتل النفس المحرمة، أنا لا أفعل كذا]، هذا جانب من المعاصي، ولكن هل أنت تجاهد في سبيل الله؟ هل أنت تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ هل أنت تتوحد مع المؤمنين في إطار الأخوة الإيمانية الصادقة، وتعتصم معهم بحبل الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” جميعاً، وتحذر التفرق؛ أم أنك تعصي الله في كُـلّ هذا؟ هل أنت تنهض بمسؤولياتك الأُخرى في واقعك الأسري والاجتماعي الذي أمرك الله بها، المعاصي والجرائم ليست فقط مقتصرةً على تجاوز ما نهى الله عنه، وفعل ما نهى الله عنه، بل والإخلال بما أمر الله به.
من يتجه مثلاً للفُرقة، للفُرقة عن إخوته المؤمنين، يشاقق، ويفارق، ويعاند، ولا يتجه للولاية الإيمانية، والأخوة الإيمانية، ماذا يقول الله؟ {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولئك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران: الآية105]، هذا بحد ذاته، مفارقتك للجماعة المؤمنة، لإخوتك المؤمنين، مشاققتك لهم، وفرقتك عن طريق الاعتصام بحبل الله جميعاً، هذا لوحدِه كافٍ في أن تدخل به إلى جهنم، جريمة كافية، عليها وعيد بخصوصها بالعذاب العظيم، {وَأُولئك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم}، مع أنها جريمة في الأَسَاس يترتب عليها جرائم كثيرة، يتفرع عنها جرائم كثيرة، لا يتسع الوقت للحديث عنها.
فمصطلح الجرائم لا يخص فقط التصور لدى البعض من الناس، الذي ينحصر على تجاوز ما نهى الله عنه، بل يأتي أَيْـضاً إلى العصيان لله فيما أمر به، وهذا هو من أكبر الجرائم التي يغفل عنها الكثير من الناس، ويتورطون فيها.
{هَذِهِ جَهَنَّمُ}، معاينتها أمر رهيب جِـدًّا، سيندم الإنسان، وسيرى أن كُـلّ شيءٍ عصى الله فيما أمر، أَو فيما نهى؛ مِن أجلِه، عقدة نفسية، هوى للنفس، رغبة، مخاوف، أي عوامل دفعت بك إلى أن تكون مجرماً، إلى أن ترتكب جريمة مما نهى الله عنه، تجاه ما أمر، أَو تجاه ما نهى، ترى أنها لم تكن تستحق منك أن تورط نفسك تلك الورطة الرهيبة الهائلة.
{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ}[الرحمن: الآية43]؛ لأَنَّ الإنسان لو أيقن، لو أيقن واستحضر ذلك بشكلٍ مستمرّ، لرجع إلى الله، لما تورط ورطةً كهذه.
{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}[الرحمن: الآية44]، (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا): يتمشى، هو في الدنيا كان البعض طموحه أن يكون لديه إمْكَانات ضخمة، بيوت ضخمة، منازل ضخمة، مزارع ضخمة، وأن يدور بينها، وأن يطوف بينها، طموح الكثير من الناس، سواءً وصل إلى ذلك، أَو لم يصل، وقد يكون هذا مما يدفع الكثير من الناس أن يقفوا في موقف الباطل، أَو أن يقعدوا عن نصرة الحق، أَو أن يتخاذلوا عمَّا أمر الله به، أَو أن يتجاوزوا ما نهى الله عنه، فهم في جهنم يطوفون بينها، بين لهبها، يطوف وهو كتلة مشتعلة من النار، مستعر بنار جهنم والعياذ بالله، كيف ستكون آلامه وهو يحترق، وأي حريق، الحريق بنار الدنيا مؤلمٌ جِـدًّا للإنسان، ما بالك بحريق نار جهنم.
{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا}: بين لهبها ونارها المستعرة، {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}: وبين الحميم، يسبح في تلك المسابح الجهنمية، التي تغلي إلى أشد مستوى من الحرارة، ساخنةٌ جِـدًّا جداً، فهو يحترق بالنار أحياناً، وبالحميم الساخن جِـدًّا، الحار جِـدًّا، أحياناً أُخرى، حالة رهيبة.
وفي ذلك العالم (عالم جهنم) كُـلُّ شيءٍ عذاب:
أكلك عذاب، أكلك عذاب، تأكل الزقوم، الذي {يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}[الدخان: 45-46]، تشرب الحميم الذي يشوي الوجوه ويقطع الأمعاء، {يَشْوِي الْوُجُوهَ}[الكهف: من الآية29] قال عنه، {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}[محمد: الآية15]، لا يرويك من ظمأ، وطعامها كذلك لا يشبعك من جوع؛ إنما هو عذاب، {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ}[الصافات: الآية66].
ثيابك من النار، ثوبك الذي تلبسه، ثوبٌ ناريٌّ أحاط بجسدك، {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ}[الحج: من الآية19]، كُـلّ شيءٍ عذاب، فإذا أردت أن تبرد، أين ستبرد حرارتك؟ ليس أمامك إلا ذلك الحميم الشديد في حرارته جِـدًّا، {حَمِيمٍ آنٍ} والعياذ بالله! وكربٌ دائم، وحسراتٌ دائمة، وعذابٌ نفسيٌ دائم.
من المهم في شهر رمضان، والإنسان يقرأ القرآن، أن يتأمل جيِّدًا في الآيات القرآنية التي تقدم عرضاً متكاملاً عن أصناف العذاب في جهنم، ليحذر؛ لأَنَّ الله يريد منا أن نحذر.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية45]، من نعمه أن يوضح لنا حتى تفاصيل العذاب في جهنم؛ حتى نحذر هنا في الدنيا؛ لأَنَّ فرصتَنا هي هنا.
نكتفي بهذا المقدار..
وَنَسْأَلُ اللهَ سُـبْـحَـانَـهُ وَتَـعَـالَـى أَنْ يُوَفِّقَنَا وإيّاكم لما يرضيه عنا، وَأَنْ يتقبَّلَ مِنَّا ومنكم الصيامَ، والقيامَ، وصالحَ الأعمال، وَأَنْ يجعلنا في هذا الشهر من عتقائه من النار، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنا الأبرارَ، وَأَنْ يشفيَ جرحانا، وَأَنْ يفرِّجَ عن أسرانا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بنصْرِهِ.. إِنَّـهُ سَمِيْـعُ الدُّعَـاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه..