السيد عبدالملك الحوثي في محاضرته الرمضانية العاشرة:
الإنسان لا يمكنه أن يستغني بنفسه، يحتاج دائماً إلى معونة الله
المؤمنون في اجتماعات الجنة يتذاكرون عالم الدنيا وذكرياتها وأسباب فوزهم
امتثال ما أمرنا الله به ونهانا عنه يوصلنا إلى الجنة مع ما يتحقّق في عاجل الدنيا من عونه ونصره وبركاته
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحَمْدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَـلِكُ الحَـقُّ المُبِيْن، وأشهَدُ أن سَيِّـدَنا مُحَمَّــدًا عَبْـدُه ورَسُــوْلُه خَاتَمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إِبْـرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْـرَاهِيْمَ إنك حميدٌ مجيدٌ.
وارضَ اللَّهُم برِضَاك عن أَصْحَابِهِ الأَخْيَارِ المنتجَبين وعَنْ سَائِرِ عِبَادِك الصالحين.
اللَّهُّم اهْدِنَا، وَتَقَبَّــــلَ مِنَّـا، إِنَّــكَ أَنْتَ السَّمِيْعُ العَلِيْمُ، وَتُبْ عَلَيْنَا، إِنَّــكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيْــمُ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ والأخواتُ..
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.
في محاضرةِ اليومِ نختتمُ حديثَنا على ضوء الآيات المباركة في سورة الرحمن.
يقولُ اللهُ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية77]، بعد ذلك العرض لنعمه الواسعة التي أسبغها علينا في الدنيا، وهو قدَّم لنا في هذه السورة المباركة عناوين لنماذج عامة من أهم وأجمع نعمه علينا، وهي نعمٌ مرئيةٌ مشاهدةٌ، ينتفع الإنسان بها بشكلٍ واضحٍ، لا يمكن إنكارها، ولا يمكن للإنسان أن يقولَ إنها أكاذيب، أَو دعايات لا أَسَاس لها من الصحة.
ثم نِعَمُه “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” التي أعدَّها لنا في الجنة، وهيَّأ لنا أسبابَ الوصول إليها، وأرشدنا إلى الطريق الموصلة إليها، ويسَّرها لنا، وجعلها أَيْـضاً مما تستقيم بها حياتنا هنا في الدنيا، كيف نتنكَّر لهذه النعم؟! كيف نتجاهلُ فضلَ الله المنعم الكريم “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” علينا؟! بأيٍّ من هذه النعم يمكن أن نكذِّب، وأن نبرّر تنكُّرنا لنعم الله وفضله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”؟!
ثم يختم هذه السورة المباركة بقوله “جَـلَّ شَأْنُــهُ”: {تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}[الرحمن: الآية78]، تبارك الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” المنعم العظيم، الذي نعمه لا تحصى ولا تعد، وهي أَيْـضاً نعمٌ عظيمة، ليست نعماً عاديةً، ليست صناعة تقليد، أَو أشياءَ ليست ذات جودة، أَو ليست ذات أهميّة، كلها من حَيثُ أهميتها بالنسبة لنا كبشر، ومن حَيثُ أنها تسد احتياجاتنا، وهي في نفس الوقت من أهم متطلباتنا، وهي مما نرتاح به، نسعد به، ننعم به، نستفيد منه، فلا يمكن للإنسان أن يعتبرها أشياء عادية، أَو من حَيثُ أَيْـضاً الكم، من حَيثُ عددها الوافر جِـدًّا، نعمٌ واسعةٌ جِـدًّا جداً جِـدًّا.
فالإنسانُ إذَا تأمل في نِعم الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” بدءاً مما أسبغه علينا من النعم في هذه الحياة، مع تطور العلوم، ومع استخدام الإنسان لوسائل متطورة، يعرف من خلالها الفوائد الكثيرة لهذه النعم، وما أعدَّ الله فيها، وَأَيْـضاً ما هيَّأ الله لنا فيها من خلال ما سخَّره وهيَّأه لاستخدامها واستغلالها بأشكال كثيرة، بأنواع كثيرة، بطرق ووسائل كثيرة، جعلت كُـلّ جزئيةٍ من نعم الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” تمثِّل عالماً واسعاً في كيفية الاستفادة منها، في منافعها الوافرة، في الأشكال، والأساليب، والاستخدامات الواسعة جِـدًّا لها، وهذا معروفٌ اليوم في النهضة الصناعية في الواقع البشري، في سعة الإنتاج، في سعة الاستخدامات لهذه النعم بشكلٍ واسع، وكلما استفاد الإنسان أكثر على المستوى المعرفي وكلما تقدم أكثر في مسألة الإنتاج واستكشف أكثر في مسألة التسخير والاستغلال لهذه النعم، كلما أدرك المزيد والمزيد من فوائدها، من منافعها، من استخداماتها المتنوعة والواسعة والمفيدة.
فاللهُ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” أسبغ علينا نعمَه العجيبة جِـدًّا، والواسعة جِـدًّا، وهو “جَـلَّ شَأْنُــهُ” قدَّمها لنا على أجلِّ صورة، وعلى أرقى مستوى، وعلى أرقى مستوى، من واقع كماله المطلق، فهو أحكم الحاكمين، وهو العظيم، وهو على كُـلّ شيءٍ قدير، ولذلك أبدع في هذه النعم إبداعاً عجيباً، وجعلها على أرقى مستوى في شكلها، في منافعها، في كيفيتها، أَيْـضاً في التسخير فيها لاستخدامات على نطاق واسع جِـدًّا، والانتفاع بها بمنافع واسعة جِـدًّا، فليست نعماً عادية، ولا قليلة، ولا محدودة، وكل صنفٍ منها استخداماته واسعة، ومنافعه عديدةٌ وكثيرة.
{تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ}، نِعَمٌ عجيبة، راقية، عظيمة جِـدًّا، على أجل صورةٍ، وعلى أرقى مستوى، {وَالْإِكْرَامِ}، يعطي “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” بكرم، عطاؤه عطاءٌ واسع؛ لأَنَّه الكريم العظيم، هو أكرم الأكرمين، فعطاؤه فيما أسبغه علينا من نعم في هذه الدنيا، في هذه الحياة، عطاءٌ واسع، يتجلَّى كرمه “جَـلَّ شَأْنُــهُ” في هذه النعم الواسعة في كُـلّ مجالٍ من مجالات حياتنا: المأكولات، كم خلق الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” من مأكولات للإنسان، مما هي حلال، من الطيبات؟ وكيف هيَّأ للإنسان فيها أن ينتفع بها بأشكال وأحوال مختلفة، ووسائل كثيرة جِـدًّا، وأن يصنع منها، وأن يطبخ منها، وأن ينتج منها الأشكال العجيبة جِـدًّا، وأن ينتفع بها، وأن تكون ذات قيمة على المستوى الغذائي للإنسان، وذات مذاق راقٍ جِـدًّا، وذات جاذبية في أشكالها وألوانها؟ في عالم الطب، في عالم الملبوسات، في عالم المشروبات، في كُـلّ ما يلبِّي احتياجات هذا الإنسان، وكل ما هو من متطلبات حياته على مستوى واسع جِـدًّا، عطاء الكريم.
أمَّا في الآخرة، أمَّا في الجنة، فهو عطاءٌ أعظم، عطاءٌ أوسع، هذه النعم التي أعطانا في الدنيا هي لمحات، هي نماذج تلفت أنظارنا إلى كرمه الواسع، وفي نفس الوقت هيَّأ الله لنا الطريق التي توصلنا إلى ذلك النعيم العظيم، دعانا إليها، بيَّنها لنا، يسَّرها لنا، طريق الجنة هي اليسرى، ليس صحيحاً ما يتصوره البعض أنها هي الطريق الأصعب، طريق النار هي الأصعب، هي الأسوأ، ولو أنَّ الإنسان يتجه فيها إلى الشهوات بانفلات، ولكنه في نفس الوقت يعاني، يشقى في هذه الحياة، ويشقى في الآخرة، لا يرتاح أبداً، لا يصل إلى الراحة الحقيقية، الراحة الحقيقية بالاطمئنان النفسي، والسمو الإنساني، والكرامة الإنسانية، ما يتحقّق لك في طريق الجنة هو أسمى، هو أرقى، هو أعظم، هو أهنأ، هو أطيب، هو أفضل، هو الذي ترتاح به مع الإحساس بالكرامة، بالاطمئنان، بالسمو الإنساني، تسعد به وأنت تشعر بالرضا أَيْـضاً، ليس فيه ما يخزيك، ليس فيه ما يضرب عليك القيمة المعنوية، التكامل في النعم المعنوية والمادية يأتي في طريق الجنة، أما في طريق النار، فلو اتجه الإنسان بانفلات نحو الشهوات، ونحو الجوانب المادية، فهو لن يصل إلى مبتغاه في ذلك، وفي نفس الوقت إنما يزداد بهيميةً، ولا يصل إلى الراحة التي يصل إليها من هو في طريق الجنة، فيجتمع له في طريق الجنة مع النعم المادية النعم المعنوية، يكون بكل شيء تأتيه راحته، لا يشعر بتأنيب الضمير، لا يشعر بالخزي والهوان، لا يشعر بالانتقاص من كرامته وقيمته الإنسانية والأخلاقية، وينال ما كتب الله له في ذلك، وفي نفس الوقت لا يزال يتطلَّع إلى ما عند الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” مما هو أعظم مما في هذه الحياة؛ لأَنَّ ما في هذه الحياة هو نماذج محدودة معينة، في مقابل أن هناك نعيماً عظيماً واسعاً راقياً، لا ينقطع، وليس فيه أية منغصات، الإنسان يحمل الوعي تجاه حقيقة هذه الحياة، وأنَّ ما فيها ليس سالماً من كُـلِّ المنغصات، وليس في نفس الوقت مُستمرًّا للأبد، إنما سينقطع، فهو يعيشُ هذه الحياة بواقعية، يدرك ما فيها أَيْـضاً من ظروف هذه الحياة، من منغصاتها، من مشاكلها، من همومها، ولكنه -مقارنةً بغيره- هو الأحسن في واقع الحال راحةً واطمئناناً؛ لأَنَّه راضٍ عن الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، ويدرك قيمة النعم المعنوية في نفس الوقت، ويتطلَّع إلى ما عندِ الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” من النعيم العظيم، الدائم، الأبدي، الخالص والسليم من كُـلّ المنغصات، الذي لا يشوبهُ كدر، فهو في حالة رضا، يدرك أنَّ آماله الكبيرة آتية، أنَّ طموحاته الواسعة قادمة، أنَّ النعيم العظيم والأبدي في مستقبله آتٍ لا محالة، ولذلك فهو راضٍ عن الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، فالله “جَـلَّ شَأْنُــهُ” أكرم الأكرمين، أسبغ علينا نعمه، ودلَّنا على الطريق التي ترتقي بنا إلى أسمى النعم، وأعظم النعم، وواسع الرحمة والفضل والبركات.
فما الذي يصرف الإنسان، والله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” من كرمه يدعونا، حتى عندما يعرض علينا هذه النعم، حتى عندما يذكر لنا تفاصيل منها، هو يرغِّبنا، هذه وسيلة من وسائل سعيه “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” أن يوصلنا إلى هذه النعم: أنه يعرض علينا نماذج منها، أنه يدعونا إليها، أنه يرغِّبنا فيها، أنه يشرح لنا عنها، ويبين لنا عنها، ويدعونا إليها، كما قال “جَـلَّ شَأْنُــهُ”: {وَاللَّهُ يَدْعُو إلى دَارِ السَّلَامِ}[يونس: من الآية25]، يدعونا، ينادينا، كم في القرآن الكريم وهو يعرض علينا ما يوصلنا إلى هذه النعم العظيمة، إلى المستقر الأبدي، {وَاللَّهُ يَدْعُو}، ينادي، ينادينا، كم في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؟ ينادينا نداءً، ويدعونا، ويتلطَّف في دعوته بنا، فيأتي بكل العبارات التي هي مليئة بالرحمة والحنان، ويكرّر بأساليب كثيرة، ونداءات كثيرة، وطرق كثيرة في خطابه لنا وهو يرغِّبنا ويحاول فينا أن نتجه إلى هذه النعم، {وَاللَّهُ يَدْعُو إلى دَارِ السَّلَامِ}، إلى مستقر السلام، الذي هو سلامٌ من كُـلّ الشرور، من كُـلّ العذاب، من كُـلّ الشقاء، من كُـلّ الهوان، من كُـلّ الخزي، تلك الدار التي يتحقّق لك فيها السَّلام الشامل، والاطمئنان التام، والاستقرار الحقيقي، فليس فيها أي شيءٍ يشكِّل خطورةً عليك، أَو ضرراً بك، أَو أذىً لك، أَو ازعاجاً لك، ليس فيها أي شرٍّ، أي شقاءٍ، أي عناءٍ، أي تعبٍ، أي نصبٍ، أي هَـمٍّ، أي غمٍّ، سلامٌ من كُـلّ الشرور، سلامٌ من كُـلّ الآلام، سلامٌ من كُـلّ العذاب، من كُـلّ الشقاء، من كُـلّ الهوان، سلامٌ تامٌ، الله يدعوك إلى ذلك، فلماذا أنت لا تقبل؟ لماذا تقبل دعوة عدوك الشيطان؟ والشيطان إلى أين يدعوك؟ إلى أين يسعى للوصول بك؟ هو كما قال الله عنه: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أصحاب السَّعِيرِ}[فاطر: من الآية6]، الشيطان حتى وهو يستغل فيك جانب الشهوات والرغبات والأهواء، ولكنه يدعوك لماذا؟ لتكون من أصحاب السعير، ليصل بك إلى قعر جهنم، ليصل بك إلى الشقاء الأبدي، ليجعلك تخسر في هذه الدنيا وفي الآخرة.
أمَّا اللهُ الكريم، الرحيم، العظيم، فيدعوك إلى دار السَّلام، {وَاللَّهُ يَدْعُو إلى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[يونس: الآية25]، يدعو ويهدي، فهو يبين هذه الطريق، ومع البيان أَيْـضاً هو يعينك، من هدايته أنه يعينك أَيْـضاً، أنه يشرح صدرك لتواصل مشوارك في هذه الطريق، ويعطيك العون على المستوى النفسي والعملي، وأنه أَيْـضاً مع شرحه لصدرك، يزين لك الإيمان، يحببه إليك، يرغِّبك، ويوفر لك أسباب الهداية، يتلافاك بألطافه وتوفيقاته… يعمل لك الأشياء الكثيرة؛ مِن أجلِ أن يصل بك إلى جنته، إلى دار السَّلام.
{وَاللَّهُ يَدْعُو إلى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ}[البقرة: من الآية221]، هكذا يقول “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”: {وَاللَّهُ يَدْعُو إلى الْجَنَّةِ}، دعوة الله لنا في كُـلّ ما أمرنا أن نعمل، وفي كُـلّ ما نهانا عنه، هو ليوصلنا إلى الجنة، ليوصلنا إلى المغفرة، مع ما يتحقّق لنا في عاجل هذه الدنيا من فضله، من عونه، من رحمته، من نصره، من بركاته، من نعمه الواسعة المعنوية والمادية، فهو يدعونا، ويهدينا، ويعيننا، وييسر لنا طريق الوصول إلى هذه النعم العظيمة، وكلنا نعلم أنَّ الانتقال من هذه الحياة انتقال حتمي، الموت في كُـلّ يوم يأتي إلى البشر، في كُـلّ يوم وهناك من يغادر هذه الحياة، لا يمر يومٌ واحد إلَّا وهناك قوافل وأعداد كبيرة من البشر ترحل من هذه الحياة بشكلٍ يومي، وكلنا نعلم أنَّ هذه الحياة ليست مستقراً، وأن لنا آجال محدودة، والأجل ينتهي، مرحلة العمر تطوى، والكثير من الناس يتفاجأ عند موعد الرحيل من هذه الحياة، يأتيه الموت بشكل مفاجئ، في الوقت غير المتوقع، وقد يتفاجأ الكثير من الناس أنَّ فلاناً رحل، وفلاناً لم نكن نتوقع أنه سيموت وهو لا يزال في هذا المستوى من العمر، فمرحلة العمر تطوى، والإنسان لا يعلم كم سيستقر أصلاً في هذه الحياة، ولذلك إذَا لم تأخذ بعين الاعتبار هذا المستقبل الأبدي الدائم؛ فأنت ستخسر، وخسارتك رهيبةٌ جِـدًّا، رهيبةٌ جِـدًّا، لكن عندما تأخذ بعين الاعتبار أنَّ هناك حياتين: الحياة الأولى أسبغ الله فيها عليك النعم، وفي نفس الوقت إذَا شكرت نعمه عليك وَإذَا اتجهت وفق ما هداك إليه، واستجبت له فيما يصلح حياتك هنا وتنال به الحياة الطيبة هنا، تبقى متطلِّعاً إلى هذه الحياة المستقبلية الأبدية، وعندما يأتي يوم القيامة، وكنت من عباد الله المتقين الذين استجابوا لهديه، كم ستكون فرحتك حتى في يوم القيامة، يؤمِّنك الله في يوم الفزع الأكبر، يحشرك فتتلقاك الملائكة لتطمئنك، ولتبشرك، تأتي لك البشارات الواحدة تلو الأُخرى في ساحة القيامة، حتى عندما تُأتى كتابك بيمينك، تفرح، تسعد، حتى وأنت تقرأ كتابك، وتطَّلع على أعمالك الصالحة، الأعمال التي بها فوزك، بها نجاتك، بها فلاحك، تستبشر وتسعد، حتى عندما تأتيك أَيْـضاً البشارة الكاملة الخالصة التامة النهائية ما بعد الحساب، ويأتي القرار بضمك إلى موكب النور، إلى أولياء الله، إلى أنبيائه، لتكون في زمرتهم، كم ستكون فرحتك وأنت تضم إلى زمرة أولياء الله، وإلى زمرة أحباء الله، وأنبياء الله، والصالحين من عباد الله، فيما يميَّز الهالك، الخاسر، الخائب، المستهتر، الذي لم يستجب لدعوة الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” في هذه الدنيا، يميَّز إلى صف المجرمين، إلى صف الشياطين، إلى صف الهالكين، إلى صف الكافرين، إلى صف المنافقين، إلى صف المجرمين، إلى تلك العناوين التي كُـلّ منها عنوانٌ يوصل أهله إلى نار جهنم والعياذ بالله.
ثم عند النقل، عند مرحلة الانتقال إلى عالم الجنة، عندما تقرَّب الجنة، {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ}[الشعراء: الآية90]، كم ستكون فرحتك؟ كيف هي مشاعرك؟ كم هو اطمئنانك؟ كم هو شعورك بالسعادة؟ مشاعر بالسعادة لا يمكن أن توصف أبداً، ولا يمكن أن يستوعبها الخيال؛ لأَنَّك ترى أنك ستنتقل إلى تلك الحياة الهنيئة السعيدة، وتحشر مع أولياء الله في زمرتهم، {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إلى الْجَنَّةِ زُمَرًا}[الزمر: من الآية73]، حتى في الطريق حتى من أول نقلة قَدَم، من أول ما تنتقل وأنت ذاهب، وأنت تعرف إلى أين أنت ذاهب إلى الجنة، إلى السعادة الأبدية، إلى أرقى نعيم، واطمئنانك الكبير بأنَّ الله في نفس الوقت نجاك، نجاك من الجحيم، نجاك من العذاب الشديد، من الخزي الدائم، من الهوان والعذاب الأبدي، {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إلى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّى إذَا جَاءُوهَا}[الزمر: من الآية73]، عندما يصلون إلى الجنة، وهي لحظة، لحظة لا يمكن أبداً أن نتخيل مدى السعادة فيها، عندما تشاهد الجنة، كم سمعنا من نعيمها، من أوصافها، في القرآن الكريم، ولكن لحظة المشاهدة عن قرب لعالم الجنة، مع معرفة أنك أصبحت من أهلها، هي لحظة من السعادة لا يمكن أن توصف، هي اللحظة التي يمكن فيها أن تنسى كُـلّ ألمٍ، أَو عناءٍ، أَو شدةٍ، قد حصل لك في هذه الدنيا، وأنت تعمل في سبيل الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” فيما يرضيه، فيما يوصلك إلى رضوانه وجنته، أي عناءٍ مهما كان في هذه الحياة، أي شدائد، أي متاعب، أي هموم، أي معاناة (جسدية، أَو نفسيه) كنت قد عانيت منها في هذه الحياة، وأنت في طريق الوصول إلى هذا النعيم، وأنت تستجيب لدعوة الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، ستعتبرها لا شيء، شعورك العظيم جِـدًّا بالسعادة والرضى بما وصلت إليه، شعورٌ عظيمٌ ينسيك كُـلّ الآلام، وكل الهموم، وكل المعاناة، وكل الشدائد، وكل الصعوبات.
وعلى العكس من ذلك لحظة الوصول إلى جهنم، بل حالة الانتقال إليها، وأنت تنقل والعياذ بالله، لو لم تسر في طريق الوصول إلى رحمة الله وجنته ورضوانه، تنقل إلى النار رغماً عنك، وأنت تعيش حالةً من الرعب، لا يمكن أن توصف، ومن الخوف، لا يمكن أن يستوعبها الخيال، والإدراك؛ لأَنَّك ستنتقل إلى الخزي، إلى العذاب الدائم، إلى جحيم جهنم، وأنت تسمع تسعرها، تسمع زفيرها وشهيقها وأصواتها المرعبة، فتدفع دفعاً، من خلال الزبانية.
بينما السوق إلى الجنة هو بتكريم، الانتقال بتكريم، وكأنك وفد يتجه إلى ضيافة الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، الضيافة الدائمة؛ أما الانتقال إلى النار فدعَّا: دفعاً رغماً عنك، وتؤخذ بالنواصي والأقدام، ويلقى بك إلقاءً إلى قعر جهنم والعياذ بالله، عندما تعاينها، أهوال رهيبة، خوف شديد جِـدًّا؛ أما عندما تلقى فيها لتباشر حرارتها، وتباشر الصلي فيها، والاحتراق بنارها، فهي أحوال رهيبة وشنيعة ومخيفة جِـدًّا.
أُولئك عندما وصلوا إلى أبواب الجنة، وفتحت أبوابها، وقال لهم خزنتها في مراسيم الاستقبال، وأجواء من التكريم والاستقبال من ملائكة الله: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}[الزمر: من الآية73].
كيف هي فرحتك في لحظة الدخول، ومعاينة ذلك العالم العجيب؟ لحظة الدخول هي أَيْـضاً لحظة في النصوص النبوية أنه لو بقي موتٌ لمات الإنسان من الفرحة؛ لأَنَّه سيرى ذلك العالم العجيب جداً: الجنة في مزارعها، الجنة في قصورها، الجنة في عالمها العجيب جِـدًّا جداً جِـدًّا، التي وصفها النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” وصفاً عجيباً، ويقرب لنا المستوى العجيب مما فيها من النعم، وما هي عليه، عندما قال:
(فيها ما لا عينٌ رأت)، كُـلّ ما يمكن أن تكون قد رأيته في هذه الدنيا، من أعجب ما فيها: من قصور، من مدن، من مساكن، من مزارع، من مناظر خلابة، من مشاهد عجيبة… من كُـلّ ما يمكن أن تسر به، أَو أن تفرح به، أَو أن تتمناه، ترى في الجنة ما هو أرقى بكثير، وبما لا يقارن، وبما لا يقارن، (فيها ما لا عينٌ رأت).
(ولا أُذُنٌ سَمِعَت)، حتى إن كنت قد سمعت عن أشياء عجيبة، عن نعم عجيبة، عن ممتلكات عجيبة… مما تهواه نفسك وتتمناه، (ولا أُذُنٌ سَمِعَت)، وحتى فيما يُسمع أَيْـضاً، مما يعجب الإنسان أن يسمعه.
(ولا أُذُنٌ سَمِعَت، ولا خطر على قلب بشر)، ولا حتى على مستوى الخيال، فنعيم الجنة هو فوق مستوى الخيال، لكن يقرِّب القرآن الكريم لنا صوراً ولمحات؛ حتى تكون الصورة لنا تقريبية، تشدنا إلى ذلك النعيم.
فهي لحظة عجيبة، عندما يقول ملائكة الله في ذلك الاستقبال، وبهذا التكريم: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} في حالة من الترحيب الحار، ترحيب بالتكريم، {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}، للأبد، وليس لمرحلة مؤقتة. في الدنيا قد يتهيأ لك شيءٌ من الراحة، ولكنه مؤقت، كُـلّ شيءٍ في الدنيا مؤقت؛ أما هناك فللأبد.
عندما تدخل إلى عالم الجنة، ذلك العالم الواسع جِـدًّا، وهي في كلها عالمٌ واسع كُـلّ ما فيه نعيم يتوفر فيها بشكلٍ عام كُـلّ أنواع النعيم، وفيه أَيْـضاً ما يخصك، كما قرأنا في الآيات المباركة التي مرَّت بنا عن الأربع الجنات التي تخص كُـلّ واحدٍ من أهل الجنة، ولكن هناك أَيْـضاً نعيمٌ واسع.
عندما تلبس من ملابس الجنة، تلبس ملابس الحرير؛ بينما من يدخل إلى النار: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ}، ما هو الفرق الكبير بين من يلبس الحرير الناعم من حرير الجنة، الجميل الناعم جِـدًّا، والفاخر جِـدًّا، والذي لا يمكن أن يماثله أي ملابس قد لبسها أغنى الأغنياء في هذه الدنيا، أَو أكثر الناس سلطاناً ومالا، يمكن لأقل أهل الجنة نعيماً، ملابسه هو، نعيمه هو، هو أرقى من ذلك بكثير، أرقى وأعظم وأسمى مما يكون قد توفر لأكثر أهل الدنيا ثراءً وسلطاناً.
تلبس من ملابس الجنة من حريرها، وتحلى من حليتها، {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ}[الإنسان: من الآية21]، {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا}[الحج: من الآية23]، أفخر أنواع الزينة، ويأتي من يلبسك هذه الملابس، هذه الحلية، هذه الزينة، (وَحُلُّوا)، {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا}، من ذهب الجنة ببريقه الأخاذ، بجماله العجيب، بزينته الفاخرة، ولؤلؤ الجنة، في مقابل أن من يتجه إلى النار يُغَلُ بقيود الله، {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ}[الحاقة: الآية30]، يُغل بقيود الله، والله قال: {وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}[الفجر: الآية26].
في عالم الجنة، تتنعم بأنواع النعيم فيها، أنواع النعيم التي لا حصر لها ولا عَدَّ، أنواع النعيم، إذَا كانت نعم الله في الدنيا يقول عنها: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}[النحل: من الآية18]، فكيف بنعيم الجنة؟!
في القرآن الكريم يبين الله لنا سعة هذا النعيم فيقول “جَـلَّ شَأْنُــهُ”: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أنفسكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}[فصلت: من الآية31]، كُـلّ ما تشتهي نفسك متوفر، كُـلّ ما تطلبه يتوفر لك، ولهذا ليس هناك ما يماثل هذه الحالة بنفسها في الدنيا، لا يمكن لأي إنسان -مهما كان وأياً كان- أن ينال كُـلّ ما تشتهي نفسه، تبقى هناك العوائق: عائق الفقر عند البعض، عائق المرض عند البعض… ظروف معينة، أَو موانع معينة، أَو نواقص معينة، لا يتهيأ للإنسان أن يكون له هذا في الدنيا مهما كان ثراؤه، مهما كانت إمْكَاناته، مهما كانت سلطته؛ أما هناك فالأمر مختلف، {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أنفسكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}، {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ}[الفرقان: من الآية16]، {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ}: من كُـلّ أنواع النعم، كُـلّ شيءٍ متوفر، وعلى أرقى مستوى، وعلى أعظم ما يمكن أن تتخيل، نعيمٌ واسع، يقول الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ}[الطور: 17-18]، (فَاكِهِينَ): هم يعيشون حالة السرور، والفرح، والارتياح التام، في ذلك النعيم الذي هم فيه، وبما أعطاهم الله من النعم الواسعة، وفي كُـلّ يومٍ يعيشون أجواء هذا النعيم، وما فيه من جديد، وما فيه مما يلتذون به، يرتاحون به، ينعمون به، يسعدون به، يفرحون به، فهم في حالةٍ من السرور الدائم والارتياح التام، ليس عندهم ملاحظات، يقولون: في نقص في هذا الموضوع، أَو هذه الملابس ليست مما تروق لنا، أَو هذا الطعام لم يعجبنا بالشكل المطلوب، لا؛ لأَنَّ كُـلّ ما أعطاهم الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” هو أرقى نعيم، هو أهنأ ما يمكن أن يهنأ به الإنسان، وهو المناسب على أرقى مستوى، يناسبهم جِـدًّا، يرتاحون به جِـدًّا، يفرحون به جِـدًّا؛ لأَنَّ الله العليم بهم، والعليم بكل إنسان، بما يناسبه، بما يلائمه، يقدم له ما يناسبه، ما يلائمه، ما يعجبه، ما يرتاح به، وعلى أرقى مستوى.
في الدنيا قد تنزل ضيفاً عند إنسان كريم، ولكنه لا يعلم بطبائعك، بما يناسبك، بما ترتاح به، وقد تتفضل ويقدم إليك شيئاً وبكرم، وقد يكون شيئاً لا يناسبك، قد تتمنى لو أنه أعطاك كذا، أَو أعطاك كذا، وهيأ لك كذا… وأنت تستحي؛ لأَنَّك ضيف، فلا تذكر له ما ترغب به.
أما في الجنة فيقدم لهم كُـلّ الذي يرغبون به من العليم بهم، من الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، ويتاح لهم المجال أَيْـضاً في ذلك النعيم الواسع أن يختاروا مما فيه ما يروق لهم، ما يناسبهم.
{فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ}، بعطاء الله، ربهم الكريم، {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}، وهذه نعمة عظيمة جِـدًّا، مع ذلك النعيم يتذكرون هذه النعمة، أن الله وقاهم عذاب الجحيم، أنهم قد نجوا؛ بينما هلك أكثر البشر، فعندما نجاهم الله ووقاهم عذاب جهنم، عذاب الجحيم، يستشعرون أنها نعمة عظيمة جِـدًّا.
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[الطور: الآية19]، يقدم لهم ما يقدم من النعيم، مع التكريم لهم؛ فهم في حالة ضيافة دائمة، ضيافة للأبد، ضيوفاً دائمين، وضيوفاً الله راضٍ عنهم، لا ينقطع رضاه عنهم، لا يملون، ولا يمل الله منهم، “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا}، يقال لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا}، فهذا من التكريم لهم، وهم -في نفس الوقت- يَهْنؤون؛ لأَنَّ ما يقدم لهم وهو على أرقى مستوى، ولأنه لا ينغصه شيءٌ أبداً، {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، هذا من التكريم لهم، والتذكير لهم بقيمة ما عملوا، بأهميّة ما عملوا، وأن نتيجته كانت هذه النتيجة: هذا النعيم العظيم، هنا يدرك الإنسان قيمة ما يعمل مما أرشد الله إليه، وأمر به، أن له هذه العاقبة الطيبة، هذه النتيجة العظيمة.
{مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ}[الطور: الآية20]، متكئين؛ لأَنَّه ليس لديهم أي شواغل مزعجة، أَو أعمال متعبة، أَو مسؤوليات مرهقة، أبداً، حتى إذَا انشغلوا بشيء، هو انشغالٌ بالنعيم بدون تعب، براحة، كما قال عنهم: {إِنَّ أصحاب الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ}[يس: 55-56]، فهم في حالة إن انشغلوا بشيء انشغلوا بالنعيم، بما هو راحة، بما هو سعادة، وليس بما هو مرهق، وليس بمسؤوليات، أَو متاعب، أَو عناء، أبداً، ولذلك هم في راحة، هم يجلسون متكئين بكل راحة بال، بكل اطمئنان، لا نصب، ولا هم، ولا تعب، ولا شواغل، ولا مسؤوليات، ولا هموم، راحة تامة، لا يمسهم فيها نصب.
ومتكئين على ماذا؟ {عَلَى سُرُرٍ} من سرر الجنة، مصنوعة مما أعد الله فيها، من ذهبها، من الأشياء الفاخرة فيها، ومزينة، ومريحة جِـدًّا، يهنأ الإنسان أن يتكئ عليها وأن يجلس عليها.
{وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ}، كثيرٌ من الشباب الذي قد يكون استشهد وهو لم يتزوج بعد، وكثيرٌ من المؤمنات التي تصعبت عليها مسألة الزواج، تتحول إلى حوراء في الجنة، أفراح الزواج في الجنة، وأعراس أهل الجنة، لكل أهل الجنة، هي فوق الخيال، هناك السعادة، هناك الراحة، هناك الاطمئنان، هناك الأجواء الممتازة جِـدًّا.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُـلّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}[الطور: الآية21]، ويلتئم شمل الأسر المؤمنة في ذلك النعيم، من دون نقصٍ على أي واحدٍ منهم، ليس جمع شملهم على أَسَاس أنهم سيشاركون مثلاً الأب فيما أعد الله له وخصه به، وإنما إضافة، إضافة نعيم إلى نعيم.
{وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}[الطور: الآية22]، يمدهم الله بأنواع الفواكه، بأنواع اللحوم، مما يشتهون، يمكن لك أن تتخير وجباتك في الجنة من أي أصناف الطعام، من أي أصناف الفواكه، من أي أصناف اللحوم، يمكن لك أن تحدّد ما ترغب به، وأي وجبةٍ من الوجبات.
{يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ}[الطور: الآية23]، ولهم مجالس يجتمعون فيها، وفي هذه المجالس يشربون من أطيب وألذ شراب الجنة، الذي ليس بمسكرٍ، وليس له آثار سلبية على المستوى الصحي والنفسي.
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ}[الطور: الآية24]، جو من التكريم، فيه من يخدمهم، ومن يهتم بهم.
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ}[الطور: 25-27]، يتساءلون، يتحدثون عن ذكريات الدنيا، وهم في تلك المجالس في الجنة يشربون من أطيب شراب الجنة، على سرر الجنة الفاخرة والممتازة، فيستذكرون في تلك الأجواء، وقد اجتمعوا، يجتمع الرفاق، يجتمع الأخوة، يجتمع الذين جمعتهم أخوّة الإيمان، وألفة التقوى، يجتمعون، فيتذاكرون هذه الحياة، وتجتمع بآخرين، يمكنك حتى أن تزور الأنبياء والمرسلين وأولياء الله، وأن تلتقي بهم، وأن تتحدث معهم.
في تلك الاجتماعات يتذاكرون عن عالم الدنيا، عن ذكريات الحياة الدنيا، وما كانوا عليه، وعن أسباب نجاتهم وفلاحهم وفوزهم، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ}، (كُنَّا قَبْلُ): في الدنيا، في الحياة الأولى، (فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ): لم نكن مستهترين، ولا متهاونين، ولا مفرطين، كنا نتقي الله، نحذر ونخاف من التفريط، نحذر ونخاف من المعصية، ولم نكن نعيش حالة الاستهتار واللامبالاة تجاه توجيهات الله وأوامره، (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا): عندما كنا في حالة يقظة، انتباه، حذر من التفريط والعصيان رجوع إلى الله، وتوبة عند الزلات والمعاصي والتقصير، كانت النتيجة أن منَّ الله علينا، تفضل علينا ورحمنا ووفقنا، (وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ): ووقانا من عذاب جهنم، التي فيها حتى الاكسجين الذي فيها هو عذاب من أشد عذاب جهنم، من أشد عذاب جهنم أنك تتنفس هواءها الحار، تستنشق هواءها وأوكسجينها الحار جِـدًّا، الذي عندما تستنشقُه في شدة حرارته يتعذب به كُـلّ جسمك، يدخل وأنت تستنشقُه إلى جسمك، فيتحول إلى عذاب وألم في كُـلّ جسمك، قال الله عن أهل جهنم: {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ}[الواقعة: الآية42]، فبدلاً عن ذلك، وبتقوى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وقاهم عذاب السموم، فاستنشقوا من أوكسجين الجنة، من هوائها الطيب، واستنشقوا الروائح العطرية من أشجارها، التي تنشر الرائحة العطرية والزكية فيها، أما سموم جهنم يجتمع فيه الحرارة والنتن، الرائحة القذرة جِـدًّا، الرائحة المزعجة جِـدًّا، مع حرارة شديدة، والعياذ بالله.
{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ}، هم أدركوا أهميّة الدعاء، فإلى جانبِ الحذر، الإشفاق، الانتباه من المعصية، الرجوع إلى الله عند الزلة، التلافي للتقصير، الدعاء، الدعاء لا بدَّ منه، الإنسان لا يمكنه أن يستغني بنفسه، يحتاج دائماً إلى معونة الله، إلى ألطافه، إلى هدايته، إلى توفيقه.
{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}[الطور: الآية28]، هو واسع البر، واسع الفضل، واسع الإنعام، وهو أرحم الراحمين، عندما تدعوه، تلتجئ إليه، وتسعى للاستقامة على هديه، وتستجيب له؛ يهديك، يوفقك، هو -في نهاية المطاف- ينجيك من عذابه، يوصلك إلى رضوانه، يوصلك إلى هذا النعم العظيم.
نكتفي بهذا المقدار، ونكون بهذا استكملنا دروسَنا على ضوء الآيات المباركة من سورة الرحمن، وعن الموضوع بشكلٍ عام..
نَسْأَلُ اللهَ سُـبْـحَـانَـهُ وَتَـعَـالَـى أَنْ يُوَفِّقَنَا وإيّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبَّلَ مِنَّا ومنكم الصيامَ، والقيامَ، وصالحَ الأعمال، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنا الأبرارَ، وأن يشفيَ جرحانا، وأن يفرِّجَ عن أسرانا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بنصْرِهِ.. إِنَّـهُ سَمِيْـعُ الدُّعَـاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه..