التأييــد الإلهــي.. قانونٌ من نمطٍ آخر يتعالى على المألوف (2)

 

عبدالقوي السباعي

إذَا ما تأملنا في نظرةٍ تحليليةٍ فاحصة سنجد أن العقل العسكري اليمني جاء شديد الخصوصية والتميز، من نظيره المنضوي تحت مِظلة التحالف الأمريكي السعوديّ، والمصاغ وفق معايير ونظم مادية محضة، إذ إن الأولَ ينزعُ إلى رفض الانصياع الكامل لسلطة التفوق العسكري كشرط ينفرد وحدَه في توجيه مسار الحرب، فهو يؤمن بأن إلحاق الهزيمة بالعدوّ ليس مناطاً بالفلسفة الكمية وحدها، ولكنه مناط أَيْـضاً بربط الأخيرة بهذا الثابت القرآني الخالد قال تعالى: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7)، فهو يجمع بين ما هو موضوعي، أي التوظيف الاستراتيجي للواقع وما هو إيماني في عقيدته القتالية، وهو ما يفسّر انتصاراته الساحقة والمتلاحقة، حتى وهو يتبوأ موقع الاستضعاف وعدوه يتبوأ موقع التمكين، (وَاذْكُرُواْ، إذ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ) (الأنفال: 26).

إذا كان الخطابُ القرآني يُعلِي من شأن الشروط الموضوعية (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) (الأنفال: 60)، كذلك سعى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) كمعلّمٍ وقائد، إلى ترسيخ وتأصيل هذه المفاهيم على الصعيدين السياسي والعسكري، في نفسية وفكر المسلمين، على نحوٍ ظلت هذه المفاهيم خالدةً في ذاكرة الأجيال جيلاً بعد جيل حتى اليوم.

وهو الأمر الذي تسير عليه القيادة العسكرية والثورية اليمنية في تعزيزه وترسيخه في ذهنية الجماهير، ما يؤكّـد حقيقة أن التأييد من قبل الله مرهون باستيفاء ما أشار إليه الله سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى في القرآن الكريم من شروط، والتي يمكن إجمالها في حتمية أن تستقي الحرب، أي حرب، مشروعيتها من إعلاء كلمة الله وإخلاص النية في ذلك، وفق الضوابط الإسلامية والأخلاقية، فيما يمكن تسميته بـ”فقه الحرب”، وهي التي نراها اليوم متجسدة قولاً وعملاً سلوكاً وممارسةً في صفوف المقاتلين اليمنيين.

التأييد الإلهي يأتي في شكل قانونٍ من نمطٍ آخر، يتعالى على ما هو مألوف في حياة البشر، من قوانين تفكك الثابت من النقائض، وتعكس ما تشير إليه من دلالات، وَ… إلخ، فضلاً عن حالتها الشركية هذه، يأتي هذا القانون الإلهي معلناً أكذوبةَ عبادة القوة أَو الآلة العسكرية، أَو أنها تكفل وحدَها إحرازَ النصر، (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ، إذ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قليلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ) (الأنفال:44).

هناك من الوقائعِ والشواهد التي نراها ونلمسها يوميًّا، والتي تعكس إعلاءَ الخطاب السياسي والعسكري اليمني، لهذا الخطاب القرآني، وحتى مع الأخذ بقيم الاعتبارات الموضوعية المؤثرة في حاضر ومستقبل اليمن (الأرض والإنسان)، التي تفضي بالنهاية إلى تحقيق النصر، وما بعد النصر، ولإن كان الأمر كذلك فَـإنَّه في الوقت ذاته يرفض الاعتقادَ بالعوامل البشرية والرؤى والقوانين الوضعية على أنها المعيارُ المطلقُ أَو القيمةُ المُثلى التي يستند إليها في استشراف ما ستؤول إليه الأوضاع بعد أن تضع الحرب أوزارها، لاعتقاده بفساد الرؤية المرتكزة إلى الأرقام والإحصائيات والحسابات المتصفة بالعقلانية والدراسات المستفيضة والأبحاث الاستقصائية، في تأطير مقوماتِ النصر، للاعتقاد بقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ ۗ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (آل عمران: 126).

إذاً فالثقافة السائدةُ للمسيرة القرآنية التي تنتهجها الاستراتيجية العسكرية اليمنية، لم تقم على مبدأ القوةِ التي تمنحها تفوقاً عسكريًّا ساحقاً في مختلف الجبهات وعلى كافة الأصعدة، ولا يمكن فضلاً على ذلك اعتماد أيٍّ من النظريات والاستراتيجيات ذات المنحى المادي الوضعي المسهب أَو الموجز، بوجهيه الشرقي أَو الغربي، والتي دائماً تبحث نظرياً عن أسباب الأحداث والوقائع ومآلاتها وتحولاتها، قياساً على التقنيات والعلاقات الاقتصادية والسياسية والصراعات التي تنشأ عنها، والتي ستعجز عن شرح وبلورة وتوصيف هذا الصمود وتلك الانتصارات وذلك التوسع والانتشار، والذي أَدَّى إلى تفوق اليمنيين في مختلف المجالات، وهو انتشار لم تستطع إيقافه حتى العوائق الطبيعية من تجاوز حدود الجغرافيا اليمنية.

إن سبب هذه الانتصارات اليمنية المتلاحقة يرجع إلى عوامل داخلية مرتبطة بجوهر وثقافة المسيرة القرآنية نفسها، إذ لا يمكن تفسيرها بعوامل خارجية أَو ضغوط دولية أَو حتى بضعف وتفكك الخصوم أَو تنوع واختلاف القوات المندرجة ضمن هذا التحالف المهزوم ميدانيًّا على الساحة العسكرية أَو السياسية، ولا حتى بعوامل عسكرية بحتة، إنما يمكن ربطها فقط بـ”التأييد الإلهي”، وإن كان هذا المصطلح قد لا يروقُ لبعض المتشدقين ومن ثَم يحاولون بطرقٍ شتى تشويهَ مسار هذا التأييد وتشويه الانتصارات، أَو ربطها بقوى خارجية دعماً وإسناداً، والتي إنما تنطلق عن وعي مشوّه يفتقر إلى الحس التحليلي الناضج القادر على سبر غور الحقائق التاريخية المجسَّدة واقعياً؛ لأَنَّهم وقعوا تحتَ تأثير رؤى تتخذ الاختلاف والتباين كمظهرٍ وحيدٍ لمادتهم التحليلية ومن جهة أُخرى لافتقارهم إلى الإيمان بالله الذي لا إله إلَّا هو العلي العظيم.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com