الموروثُ الزراعي بدأ يتلاشى من الذاكرة وإحياؤه يحتاج إلى نهضة زراعية متكاملة

 

المسيرة – حاوره إبراهيم العنسي

أبدى أمينُ عام الجمعية الفلكية اليمنية، الخبير الزراعي القاضي يحيى العنسي، تفاؤُلهَ بعودة الروح إلى الموروث الزراعي مع إرهاصاتِ نهضةٍ زراعيةٍ تعيشُها أرضُ الجنتين بدعم من القيادة السياسية والثورية لبلادنا.

ويسرُدُ القاضي العنسي في حوار خاص مع صحيفة “المسيرة” أمثالاً ويحدثنا عن مواقيت وتراث زراعي يقول إنه بدأ يتلاشى من ذاكرة مجتمع الزراعة إلى وقت قريب، بما كان يشير إلى اقتراب اندثاره في بلاد وحضارة الزراعة والسدود.

ويتحدث القاضي العنسي بشكل مقتضَبٍ عن الموروث الزراعي الأكثر ارتباطاً بثقافة المجتمع الزراعي معالم ومواقيت ومنازل نجمية كانت ولا تزال دليلَ الفلاح اليمني في الزراعة.

إلى نص الحوار:

 

– بدايةً ومع تراجُعِ الزراعةِ في اليمن خلال العقود الماضية.. هل تراجع معها الموروثُ الشعبي الزراعي والثقافة الزراعية؟

بالتأكيد إن حظَّ اليمن من الزراعة قد تراجعَ إلى أبعد الحدود، فيما مضى، وهذا التراجع كان لا بُـدَّ له أن ينعكسَ على ثقافة الناس والمزارعين، ومع تخلي الريف إلى حَــدٍّ ما عن الزراعة بدأ الموروث الشعبي الزراعي في الاضمحلال والتلاشي من الذاكرة الزراعية، وكاد أن ينتهي، وذلك مع اتّجاه المزارع نحو زراعة القات التي لا تهتمُّ بالمواقيت والمواسم وغيرها.

 

– هذا يعني أن تحوُّلَ الناس زراعياً نحو القات كان العاملَ الأهمَّ في انحسار هذا الموروث الزراعي؟

بالفعل، يمكنُنا تصوُّرُ أن تتحولَ مناطقُ وسهولٌ كانت تزرعُ الذرة والبر والخضروات إلى مزارع للقات لا يعنيها هذا الموروثُ المرتبطُ بمواقيت الحراثة والزراعة والحصاد وغيرها، كما لا يعنيها بقاءُ الذاكرة حيةً بالأشعار والأمثال وترقُّب النجوم وحساب الأشهر بانتظار مواسم الزراعة.

 

– مع تراجُعِ الاهتمام بالأمثال الزراعية التي تكاد تندثر دون نقلها من الأجيال السابقة للأجيال اللاحقة.. كيف يمكن تجديدُ هذه الذاكرة؟

الموروثُ الزراعيُّ أمثالٌ وأشعارٌ بحاجة دوماً للتدوين وَالإحياء الذي يتناسبُ وَالتوجُّـهَ العامَّ نحو تحقيق نهضة زراعية تشمل أنواعَ الزراعة على اختلاف أصنافها وأشكالها من حبوب وفواكه وخضروات وغيرها، ستعيد حتماً إحياء هذا التراث الزراعي العريق، لكن ومع الأجيال الجديدة نحن بحاجة لزخم واسع لإعادة روح هذه الأمثال والأشعار ومعرفة المواقيت الزراعية إعلامياً واجتماعياً.. لقد كان لدينا على مستوى الإرشاد الزراعي برامجُ تلفزيونية أسبوعيةٌ، صالح العابد وعلي يوسف الأمير وعادل مطهر، الذي كان والده يجوبُ بسيارتِه كُـلَّ قرية والناس تسمع أمثالَ وحِكَمَ علي بن زايد والحُمَيد بن منصور، مع أن الدولة لم تكن تهتمُّ بالزراعة في الحقيقة، فقد كان هذا المجهودُ يُحسَبُ لهؤلاء الأشخاص الذين حاولوا أن يبقوا على أقلِّ القليل من هذا الموروث الزراعي الشعبي الجميل.

 

– مع مؤشرات النهضة اليوم.. ما الذي تستطيعُ الدولةُ أن تقدمَه لاستعادة هذا الموروث الزراعي؟

الدولة والمنظمات والجمعيات المحلية وهنا يجب التركيزُ على الداخل، تستطيع أن تستعيد هذا الموروث وإن كان الجيل الجديد لا يعلم عن هذا الموروث لا قليلًا ولا كَثيراً كذلك الجيل الذي سبقه لا يعلم شيئاً، فمن سبقوهم لم ينقلوا هذا التراث لهم؛ كون النشاط الزراعي في العقود الأخيرة انحسرت وانحصرت أهميته في زراعة القات أكثرَ من أي شيء آخر، لكن مع تفعيل الأنشطة والمبادرات المرتبطة بالنهضة الزراعية ستجد هذه الموروثاتُ مكاناً لها فهي جزءٌ هام من الحكاية، فالناس في مزارعها ستردّد الأشعار وَالمهاجل ووسائل الإعلام ستكون حاضرةً والإرشاد الزراعي سينعش ذاكرةَ مَن تبقى من مزارعي الأمس ويعلّم مزارعي اليوم.

ولأهميّة هذا الموروث في المردودات الزراعية على المزارع ستتعلق ممارساتُه بالأمثال والمواقيت التي تنبّه عن أفضل أوقات الحرث والزراعة وغيرها وعندما يقول المثل: إذَا مرادك كبر المحاجين… عليك بتلة الأرض بكوانين. وكوانين هذه يقصد بها الشهر السرياني كانون الثاني يناير.

وقول على بن زايد: “بقس العنب في حَــدَ عشر والسبع تبدي كرومه”، وَيقصد بها أن تقليمَ وقطعَ فروع أشجار العنب في المناطق الدافئة يكون في شهر ۱۱ وهو ٨ يناير وحتى ٣ فبراير وفي المناطق الباردة في شهر التسع الموافق شهر فبراير وأما شهر السبع فهو مارس الذي تظهر معه كرمة العنب، وهكذا تأتي الأمثالُ والأشعار وكل الموروث الزراعي المتناقل عن الأجداد إلى الآباء كمعالم واضحة ومرشدة للزراع، وهو ما يجب أن نُحْيِيَه في سياق العودة للاهتمام بالزراعة ضمن برامجَ زراعية مُستمرّة وثقافة يكتسبُها الجميعُ من المدارس ومناهج الدراسة إلى برامج الإرشاد الزراعي إلى الإعلام المتنوع والتحفيز لاكتساب هذه الثقافة… وهكذا.

 

– أشرتم قاضي يحيى إلى تدوينكم قبل حوالي خمسة عشر عاماً للمحاصيل والمواقيت وارتباطها بالأمثال في المناطق اليمنية المختلفة.. ما الذي دوّنته وقتَها؟.. وما مدى ارتباط المزارع بالأمثال والموروث الزراعي في تلك الفترة؟

في تلك الفترة قمتُ بجولة ميدانية لعدد من المحافظات شمال وجنوب البلاد، وكنت حريصاً على تدوينِ المحاصيلِ ومواقيتِها في البلاد عُمُـومًا من حضرموت إلى سقطرى إلى تعز إلى المناطق الصحراوية والمحافظات الشمالية والغربية وكذلك قياس مدى تذكُّر المزارعين للأمثال الزراعية، فكان البعض يذكر لنا بعضاً منها، والبعض كان قد نسي، وكنا نذكّرهم بها وكيف نتعرف على مواقيت الحرث والبذر والحصاد وأماكن النجوم في السماء، فعن الشهر الحميري ذو مبكر كمثال واذي يوافق شهر أيار 14 مايو، وهو موسم بذر الذرة في الصيف، تقول أمثال تعز وإب في ذلك: إذَا جاك المبكر فابتل ولا تتأخر.. أي بمعنى بهذا الوقت المحدّد احرِثِ الأرض وازرعها ذُخن دون تأخير.. وقول علي بن زايد من ذمار وإب: “متلم طلوع الثريا يسابق النجم الأحمر”.. أي أن بذر البذور مع طلوع الثريا في 27 مايو يسرع في نبات الزرع، وشبّه سرعة نموه بالنجم الأحمر الذي يسقطُ من السماء إلى الأرض.

وعن مواقيت بذر الذرة في الصيف يقول الحميد بن منصور من لودر أبين: “الحب كله تنابيت غير المواسم لها حلال.. ويقاربه على بن زايد من أمثال ذمار وإب بقوله: كُـلّ المتالم تنبت الحب.. غير المتالم لها أوقات.

ومن أمثال مواقيت مواسم البذر من شبوة “اطرحني على الغفر لا غفر لك”، والغفر منزلة يطلع أول الليل ليوم 14 إبريل ويطلع في شبوة قبل صنعاء بثلاثة أَيَّـام وفيه حثٌّ على المسارعة في بذر الذرة البيضاء والتي تحصد بعدَ ثلاثة أشهر، ومن أمثال الحيمة وبني مطر من محافظة صنعاء القول “غروب الثريا عشا.. اطرح بيدك ما تشاء” أي ابذر الحَب ويكون هذا الغروب في الأول من مايو… وهكذا..

لقد سردنا تفاصيلَ لموروث كاد يندثر وينتهي، علّنا بهذا نكون قد حفظناه ولو مدوَّناً، وللمعلوم فَـإنَّ أهميّة هذا الموروث في اليمن تظل كَبيرةً، فنحن بلدٌ ليس به لا أنهار وَلا غيول، فقط يعتمدُ على الأمطار وَما تجود به السماء..؛ وَلأَنَّ هذا الجهد لم يستمر ولم تكن الدولة مهتمةً كَثيراً باستعادة إرث البلاد الزراعي ظل هذا الجُهدُ بمثابة اهتمام وعملٍ شخصي أكملته في موسوعة من أربعة أجزاء تناولت فيها الزراعةَ ومحاصيلَها وأوقاتَها، وهي بانتظار الطباعة.

 

– ولكن لماذا لم تطبعْه إلى اليوم؟

في البداية كان هذا العملُ في جزئين، وقد تمت طباعته في السابق، لكني توسعت في هذا المؤلف ليصبحَ أربعة أجزاء شاملاً كُـلَّ المناطق اليمنية، كما أشرت بتنوع محاصيلها وغِلالها ومواقيتها وأمثالها الزراعية، بحيث أصبح مؤلَّفاً أكثرَ اتساعاً وأعظمَ فائدةً.

وقد حظينا باهتمام الرئيس مهدي المشاط، رئيس المجلس السياسي الأعلى، والذي وجّهَ مشكوراً بطباعة المؤلَّف الموسوعة برغم الظروف التي تعيشُها البلادُ جراء العدوان والحصار.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com