مأساةُ الأُمَّــة

 

د. فاطمة بخيت

الثباتُ على القيم والمبادئ العظيمة مع وجود التحديات الجسيمة، سجية لا يتحلى بها إلا أصحابُ النفوس الأبية التي حطمت قيود العبودية لكل ما سوى الله؛ لأَنَّها تدرك جيِّدًا أنّ الحرية الحقيقية في طاعته لا طاعة سواه، الطاعة التي تمثل طريق النجاة في الأولى والأُخرى.

أحداثٌ كثيرة يحملها لنا التاريخ، ولكن ما يميز حدثا من آخر هو مدى تأثيره في واقع الأُمَّــة وعلاقته بمصيرها، كهذا الحدث والفاجعة العظيمة التي نعيش ذكراها، بما تحمله من آلام ومآسٍ لما حَـلَّ بالإمام الحسين وأهل بيته من جهة، وما حَـلّ بالأمة من الضلال والانحراف من جهة أُخرى. ذلك الضلال والانحراف الذي أحدثه الطغاة والمستكبرون والذي أَدَّى بهم لاقتراف جرماً وفاجعة لم يسبق وإن حدثت في التاريخ البشري في حق من كانوا هم الامتدادَ الحقيقيَّ لولاية الله على هذه الأرض.

قد تبدو هذه الحادثة كغيرها من الأحداث التاريخية لدى السذج والسطحيين ومن لا يستقرئون تلك الأحداث ويربطونها بالنتائج التي أفرزتها وأدت إلى الولوج لمنحدر خطير كاد أن يعصف بالأمة، فتمر عليهم دون أخذ العظة والعبرة والدروس التي تمنح الإنسان البصيرة وتدفعه لإصلاح الواقع المتردي والمنحرف، فلا يقع ضحية الزيغ والضلال فيحل به الخسران المبين والشقاء الأبدي.

إنّ ما حَـلّ في يوم عاشوراء على أرض كربلاء من جريمة وحشية يندى لها جبين الإنسانية، ليست وليدة عصرها أَو يومها، إنّما كانت امتداداً للانحراف الذي نال الأُمَّــةَ منذ رفض بعض الصحابة طلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإحضار قلم ودواةٍ ليكتُبَ لهم كتاباً لا يضلوا بعده أبداً، عندما خالفت الأمر الإلهي وفارقت اليد التي رفعها رسول الله يوم الغدير، ولم تتمسك بها لتنجوَ من الضلال والضياع، فكانت النتيجةُ أن انقلب القومُ على أعقابهم، وأصبح حال الأُمَّــة كالسفينة التي تتقاذفها الأمواج في كُـلّ اتّجاه، وتأخذ بيد هذا ويد ذاك، فلا تصل إلى بر الأمان، ذلك الأمان الذي كان واضحًا وجليًّا عندما تركها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المحجّـة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك، الهلاك الذي مصدره كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: “هلاكُ أمتي على يد غِلمة من قريش”.

تتوالى الأحداث وتتوالى المآسي بحق آل محمد وهم يواجهون قوى الطغيان، فكان الثمن أن تخسر الأُمَّــة أعلامها وقادتها العظماء، ليقتلوا واحداً تلو الآخر نتيجة التفريط والتخاذل عن العمل بالتوجيهات والمواعظ التي سمعوها من رسول الله وأهل بيته صلوات الله عليهم.

كانت الأُمَّــة قد وصلت إلى انحراف كبير لم يستقم إلا بحصار مطبق وعطش تكاد تتقطع له الأكباد ومعاناة كبيرة، وأجساد تقطع، ودماء طاهرة تُسفك على أرض كربلاء، ورؤوس شريفة تُحمل على أسنة الرماح، ونساء طاهرات عفيفات يؤخذن سبايا إلى قصور الأدعياء والطلقاء.

على الرغم من عظم الفاجعة وحجم المأساة إلا أنّ قوة الإيمان جعلت ذلك الحدث قربة يتقرب به آل البيت عليهم السلام إلى الله لإصلاح الواقع المظلم الذي وصلت له أُمَّـة جدهم رسول الله، فكان كُـلّ شخص كالطود العظيم في مواجهة الطغاة والمجرمين، عكست ذلك المواجهات بالسيف واللسان، فسطر لنا التاريخ أروع أنواع البطولات على ميدان المواجهة بين قوى الإيمان والضلال، وأبلغ الخطب وأجزل العبارات لاستنهاض الأُمَّــة لمواجهة الخطر المحدق بها، ورفض الباطل الذي خيم عليها بظلاله.

حدث يحمل بين طياته الكثير من الدروس والعبر للأجيال القادمة على مر التاريخ، لتشابه الأحداث في كُـلّ زمان ومكان، في الصراع الأزلي بين الحق والباطل، والخير والشر، فكل يومٍ عاشوراء وكل أرضٍ كربلاء.

فما أحوج الأُمَّــة اليوم وهي تعيش في عصرٍ تكالبت عليها كُـلّ قوى الشر والضلال أن تستلهم الدروس والعبر من هذه الحادثة لتكون بمستوى المواجهة لهذه القوى، وما أحوجنا ونحن نواجه هذا العدوان البربري الغاشم على يمننا الحبيب بشتى أشكاله وأنواعه أن نكونَ حسينيين في مواجهة كُـلّ يزيدي، نستمد من الإمام الحسين وأهل بيته عليهم السلام القوة والصلابة رغم ما نحمله من آلام الجراح، وشدة المعاناة، لتنتصر عدالة القضية على كُـلّ قوى الطاغوت

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com