الإِمَـامةُ والجمهوريةُ والتمييزُ العصبوي.. الثأرُ والثورةُ في 26 سبتمبر (2)
عبدالملك العِجْـرِي
التمييزُ العُصبوي أَو العُنصري من الموضوعات الأثيرة للردح السبتمبري العُصْبَوي المُزْمِن.
ويُقصَدُ بالتمييز كمفهومٍ اجتماعي: الامتيَازاتُ والحقوقُ المتوارَثةُ لفئةٍ اجتماعيةٍ أَو أكثرَ يتوارثُها الأبناءُ عن الآباء دون جهد أَو استحقاق، وعكسُه التميزُ السلبيُّ وَيُقصَدُ به: الانتقاصُ المتوارَثُ للحقوق المشروعةِ لفئة أَو فئات اجتماعية.
تتَّفِقُ الدراساتُ الاجتماعيةُ أن بُنيةَ المجتمع اليمني بُنيةٌ تمايزيةٌ، وتختلفُ فيما بينها في عددِ المَرَاتب الاجتماعية وفي تقديم وتأخير بعض الفئات، لكنَّها بشكل عام تضعُ كُـلًّا من (السادة، المشايخ، الفقهاء أَو القضاة) في المرتبة العُلْيَـا، من حَيثُ الحقوقِ والامتيَازات.. وفئة دنيا تضُمُّ ما يسمى (الأخدام، أبناء الخُمْس وغيرها من الألقاب البغيضة التي لم ينزلْ بها اللهُ من سلطان).. وقبلَ أن ندخُلَ في نقاشِ مَراتبِ التركيبة الاجتماعية للمجتمع اليمني وحقيقةِ امتيَازات فئاتها، وأصلها هل دينيٌّ أم اجتماعي أم اقتصادي؟ دعونا نَـــرَ كيف تعاملت العقليةُ الثأريةُ والثأريون مع إعلان ثورة السادس والعشرين من سبتمبر إلغاءَ الفوارق والامتيَازات بين الطبقات؟.
تمُدُّنا الوقائعُ والأحداثُ بعشرات الشواهد الدامغة على كيف سقط هذا المبدأ كغيرِه من مبادئ وَمضامين الثورة السياسية والاجتماعية ضحيةً للثأرية والثأريين، وكيف اشتغلت عليه بطريقةٍ كيدية ثأرية ضد فئاتٍ محدّدة؛ لإدانتها وتجريمها وليس لإدانة البُنية التمييزية في تركيبة المجتمع اليمني وإحلال مبدأ المُواطَنة المتساوية لكُلِّ الفئات الاجتماعية العُلْيَـا والدنيا.
فاختزلت إلغاءَ التمييز في إسقاط الامتيَازات المفترَضة للهاشميين ثم لإقصائهم وإقصاء الزيدية كفكرٍ وجماعة، ومع أنه كما يقول اللواء عبدالله جزيلان في (التاريخ السري للثورة): “الكثيرون من تنظيم ضباط الأحرار كانوا من شريحة السادة”.. إلَّا أن التعبئةَ الثأريةَ التي رافقت مسارَ الثورة جعلت من كُـلّ هاشمي وزيدي إمَامياً مفترضاً، لا سيما بعد سيطرة التحالف التقليدي للمشايخ والإخوان على السلطة.
وفي ذات الوقت، عززت من تكريس امتيَازات مشايخ القبائل ضمن الفئة العُلْيَـا والقوى التقليدية، فإضافةً إلى سلطتهم الاجتماعية في قبائلهم منحتهم سلطةً سياسيةً في الدولة، وأسبغت على القوى التقليدية وعلماءِ الإخوان الألقاب الثورية، وحوّلتهم لرموز وأَيقونات جمهورية، مع أن بعضَهم ربما سمع بالجمهورية لأول مرة في 26 سبتمبر ولا يفقهُ من الثورة والجمهورية إلَّا أنها الخُصومة مع الإِمَـام، أَمَّـا الفئاتُ الدُّنيا من المهمَّشين والأخدام وأبناء الخُمْس فلم يكن لهم موقعٌ من الإعراب لدى ثُــوَّار سبتمبر الثأريون، وبقيت أوضاعُهم على حالها سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا دون تحسُّن، ومع أنهم الفئةُ الأكثرُ تضرُّراً والظلمُ الواقعُ عليهم مضاعَفٌ، فلم يُحرَموا من أيَّةِ امتيَازات فحسب، بل لا يمكن لأحدهم تغييرُ وضعِه معها كانت كفاءته، ولم تبذل الدولةُ أيَّ جُهدٍ لمساعدتهم على تغيير أوضاعهم والتمتُّع بحقوقهم بموجب مبدأ المواطَنَة المتساوية، ولا زال وضعُهم بعد أكثرَ من خمسين عاماً من الثورة دونَ تقدم على المستوى السياسي والاجتماعي. وأول مرة يتم الالتفات إليهم كان في مؤتمر الحوار الوطني عام 2013م وإن كان مُجَـرَّدَ إقرارٍ نظريٍّ بحقوقهم المشروعة ومسؤولية الدولة إزاءَ مساعدتهم لتحسين أوضاعهم.
أَمَّـا مصدرُ هذه التركيبة التمييزية فَـإنَّ الفرضيةَ التي تُحَمِّــلُ الإِمَـامة الزيدية مسؤوليتَها، وتجعلُ (السادةَ) في أعلى السلم الاجتماعي للمجتمع اليمني فلا يسندُها أيُّ دليلٍ، فالتركيبةُ الاجتماعيةُ للمجتمع اليمني والمكانةُ الاجتماعية (للسادة) تأثرت بالسياق الاجتماعي القبَلي للمجتمع اليمني، وبحسب دراسة القصر والديوان عن القبيلة -وهي من الدراسات الرائدة في بابِها- كان دورُ القبيلة هو الحاسِمَ (سيأتي في الحلقة التالية سببُ تفوُّق تأثير القبيلة على الدولة والعناصر الثقافية الدينية) في تنظيمِ التركيبة الاجتماعية وتحديد المكانة الاجتماعية للأَفْـرَاد في الجماعة القبَلية، وعلاقة الفرد بالقبيلة هي التي تحدّدُ مكانتَه وحقوقَه في القبيلة. فأَفْـرَاد القبيلَة الأصليون يتمتعون بحقوقٍ متساوية، أَمَّـا الأَفْـرَاد الذين يلتحقون بالقبيلة من خارج الوحدة القرابية فتختلفُ حقوقُهم ومواقعُهم بحسب طريقةِ التحاقهم بالقبيلة، وذلك بواحدة من ثلاث طرق.
الأولى: الالتحاق الاختياري عن طريق المؤاخاة، إِمَّـا قبيلةٌ تعلنُ اتّحادَها مع قبيلة أُخرى أَو فرد من أَفْـرَادها يختار مؤاخاةَ قبيلة أُخرى، هؤلاء يحتلون مكانةً متساويةً مع أَفْـرَاد القبيلة الأُمِّ.
والثانية: الإلحاقُ الاضطراري عن طريق الضم والإلحاق، مثل أسرى الفُرس، ويسمون أبناء الخُمْس وأسرى الأحباش ويسمون الأخدام، وهؤلاء توكل إليهم الأعمال الخدمية، ويحتلون مرتبة متدنية.
والطريقة الثالثة: الالتحاق عن طريق الإجارة والهِجْرة، كالهاشميين والقضاة، وهؤلاء يحتلون مكانةً عَلِيَّةً لأسبابٍ دينيةٍ وطبيعة الأعمال الفِكرية والدينية التي يزاولونها، وهي أعمالٌ محترَمةٌ من وجهة نظر القبيلة.
وكما هو واضحٌ كان الشيوخ -حسب دراسة القصر والديوان- هم الذين يتمتعون بالمكانة العالية في القبيلة ثم السادة والقضاة، وَفي نظام القبيلة كوحدة سياسية واجتماعية فَـإنَّ مشايخَ الضمان هم رأس الاتّحاد القبلي، ويعتبرون بمثابة السلطة السياسية، ويُمَثِّلون الاتّحادَ أمام الدولة والقبائل الأُخرى، يليهم شيوخُ القبائل، وهم النُّخبةُ العسكرية الذين يديرون الشؤون العسكرية والأمنية للقبيلة، ثم الأُمناء والأعيان ويمثلون السلطة التنفيذية للقبيلة، ويتولون جمع الزكاة وتوثيق العقود ونحوها.
أَمَّـا الهاشميون فكانوا يخضعون لنظامِ الهِجرة (يشبهُ وضعَ المقيم في الدولة الحديثة)، ونظام الهجر في العُرف القبلي يوفر لهم الحمايةَ، لكن لا يسمحُ لهم المشاركة في إدارة شؤون القبيلة.
صحيحٌ أن هاشميي المدن كانوا يتمتعون بمزايا سياسية واقتصادية تُدِرُّهَا عليهم الوظائفُ التي يشغلونها في إدارة الدولة المتوكلية (كانت سلطةُ الدولة قبل الثورة وبعدها تتركّز في عواصم المدن، أَمَّـا خارجَها فكانت القبيلة هي الحاكمةَ باستثناء فترات متقطعة) والمستفيدون منها كانوا بيوتاتٍ محدودةً، أَمَّـا غالبيةُ الهاشميين وخَاصَّةً سكانَ الأرياف المناطق القبلية فكانوا هِجرةً، ونظام الهجر في العُرف القبلي يوفرُ لهم الحمايةَ، لكن مشاركتهم في إدارة شؤون القبيلة ووضعهم الاقتصادي أقلُّ من أَفْـرَاد القبيلة، ويختلفُ وضعُهم بحسب الخدمات التي يقدمونها للقبيلة، فالعائلات الهاشمية ذات التأهيل العلمي الديني الجيّد وَالتي تشتغلُ بتدريس العلوم الدينية تتمتع بوضعٍ أفضلَ كمرجعية دينية للقبيلة، إدارة الشؤون الدينية للقبيلة، تعليم القرآن وإمامة الصلاة، وأحياناً توثيق عقود الأرض والنكاح، ويشاركهم الفقهاءُ في هذه المكانة، لكن هذا لا يمنحُهم حقَّ المشاركة في إدارة شؤون القبيلة السياسية والعسكرية ولا في غُرم وجُرم القبيلة كما سبق.
ويتوارث أَفْـرَادُ العائلة هذه المكانة ما داموا يحافظون على موروثها العلمي وما دام يخرج منهم العلماءُ وَإلا فَـإنَّهم يفقدون هذا الامتيَازات، فهي ليست امتيَازاتٍ متوارثةً كما توحي بعضُ الدراسات الاجتماعية، أَمَّـا بقيةُ الأُسَرِ الهاشمية التي لا حَظَّ كبيراً لها في العلوم الدينية فكانوا فلاحين يشتغلون في فلاحة الأرض التي يملكونها وبالأجر اليومي؛ لذا فَـإنَّ تصويرَ الهاشميين طبقةً أَو فئةً متجانسةً تتمتع بامتيَازات سياسية وحقوقية متوارثة ما هو إلَّا من اختراعِ التعبئة الثأرية، فالهاشميون كفئة كانت حظوظُهم السياسيةُ والاقتصادية متفاوتةً، فالكتلةُ الأكبرُ منها لا يتمتعون بأية امتيَازات اجتماعية أَو اقتصادية، وعلى حَــدّ الشاعر عبدالله البردوني: “فقد كان أغلبُ السادة من طبقة الفلاحين والحِرَفيين والتجار اقتصاديًّا واجتماعيًّا”.
أَمَّـا الاحترامُ القائمُ على العاطفة الدينية لقرابتهم من النبي محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- فحالةٌ سائدةٌ في كُـلّ المجتمعات الإسلامية تقريبًا، لا تخُصُّ الزيديةَ ولا المجتمعَ الزيديَّ، بدليل أن هذه المكانة الاجتماعية موجودةٌ في المناطق الشافعية وفي حضرموت والمدن اليمنية التي لم تكُنْ تاريخيًّا ضمن نفوذ الدولة الزيدية، وكوضعِ الأشراف في مِصْرَ الذين يحْظَون باحترام العامة، كما يقول سيد سالم مصطفى في كتابه (تكوين اليمن الحديث) وكوضع الأحباب في إفريقيا وشرق آسيا وكل دول العالم الإسلامي.
وبشأن غَلْبَةِ العُنصر الهاشمي على إدارة المملكة المتوكلية فعلَى فرض صحته تتحمَّلُ وِزْرَه سياسةُ النظام الحاكم وليس الزيدية؛ وذلكَ لأَنَّ نظام الإِمَـامة كنظام حُكم وإن كان يشترط النسبَ العَلَوي لمنصب الإِمَـامة، أَمَّـا ما عداه من المواقع القيادية والإدارية فلا يُشترَطُ فيها غيرُ الكفاءة والأهلية، بحسب طبيعة المهمة، في كتاب (متن الازهار) المدوَّنة الفقهية المرجعية عند الزيدية، يجوزُ للإِمَـام حتى الاستعانة بغير المسلمين وأن يؤمِّرَ على السرية أميراً صالحاً (المقصود بالصلاح الكفاءة) ولو فاسقاً على حَــدِّ “الأزهار” في كتاب السِّيَر، أي أن الخِبْرَةَ في المواقع القيادية تُقَدَّمُ أحياناً حتى على حسن الديانة، فما بالُك باشتراطِ الهاشميةِ. وثانياً المعروفُ عن الإِمَـامَ يحيى والإِمَـام أحمدَ أنهما كانا يفضّلان الاستعانةَ بالقُضاة أكثرَ من الهاشميين في مواقع السُّلطة العليا؛ لإبعادِهم عن المنافسة على منصِبِ الإِمَـامة. يقول البردوني: إن الأَئِمَـةَ انتهجوا عمليًّا طريقًا وسطًا، فَقَصَرُوا شُرُوْطَ الإِمَـامة عليهم واستوزروا غيرهم من البيوتات الأُخرى من ذات المكانة الفقهية في أغلب العهود من أمثال الشوكاني والأكوع والحيمي وآل الإرياني وآل جغمان وسائر النابهين الفقهاء. وقلما استوزر إمامٌ أحداً من قرابته، كما أنهم اتخذوا القياداتِ المحليةَ لأمراء الحرب ولكبار الموالي سادات التصالح؛ اجتناباً لطموحِ ذويهم الذين كانوا ينفردون بحُكم المنطقة التي يُخضِعونها أَو يقيمون فيها.. ولهذا اتخذ الأَئِمَـة وزراءَهم وقادةَ أكثر حروبهم من غير ذويهم”.
وبخصوص اشتراط النسب العَلَوي في منصب الإِمَـامة فهي كالخِلافة، والتاريخ السياسي الإسلامي عُمُـومًا يقومُ على العصبوية أَو الرابطة العصبية التي يعتبرها ابنُ خلدون أَسَاسَ الملك، وأن العربَ لا يحصل لهم المُلكُ إلا بعصبية أَو صبغة دينية من نبوَّةٍ أَو وَلايةٍ أَو أثرٍ عظيمٍ من الدين. ويجب أن تُقرَأ كجزءٍ من التاريخ السياسي الإسلامي في سياقاتها التاريخية، ومن الظلمِ محاكمتُها لمعاييرِ الفكر السياسي الحديث.