في رحــاب الشهداء
أبو الشهيد صالح علي القاضي
إليكم أيها الشهداء الأبطال، إليكم أيها العظماء الأحرار، والمؤمنون الأخيار، يا من سالت دماؤكم الطاهرة في كُـلّ الجبهات والميادين، إليكم يا من مدحكم الله بقوله: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ)، إليكم يا من قال فيكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “من كبَّر تكبيرة في سبيل الله كانت له كصخرة في ميزانه يوم القيامة، أثقل من السماوات والأرض وما فيهن”، إليكم يا من تُتوَّجون بتاج الكرامة يوم القيامة.
فلكم منّا التحية والسلام، ومن الله المغفرة والرضوان، والكرامة والإحسان (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ).
إننا عندما نتحدث عن الشهداء، إنما نتحدث عن رجال أوفياء (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ)، نتحدث عن رجال صادقين (صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)، نتحدث عن رجال (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)، نتحدث عن رجال مؤمنين (يُؤْثِرُونَ عَلَى أنفسهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)، نتحدث عن رجال سلَّموا لله ولقيادتهم تسليماً مطلقاً، وأعطوا قائدهم عهودهم ومواثيقهم على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، وقالوا: يا سيدي لقد عرفنا أن المسيرة القرآنية على الحق، وأنت الناطق بالحق، ونحن نقف في صف الحق، فامضِ بنا يا سيدي حيثما تريد، إنا لصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء، هكذا يقولون لقائدهم كما قال أجدادهم الأنصار للرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوم معركة بدر.
إننا نتحدث عن رجال سطَّروا أروع الملاحم البطولية، وداسوا بأقدامهم الطاهرة أحدث الأسلحة المتطورة، وواجهوا طواغيت العالم، ومرَّغوا أنوف العدوّ في التراب، وتهاوت أمامهم كُـلّ القوى، وانكسرت كُـلّ الزحوفات تحت ضرباتهم الحيدرية (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)، وهل يوجد اليوم على وجه الأرض أمثال هؤلاء الأبطال والذين صدق فيهم قول القائل: “من أراد أن يغزو إعزازاً للدين، ونصرةً للمؤمنين، ينبغي أن تكون له خصال في الحرب، أولها: أن يكون في قلب الأسد لا يجبن، وفي كِبرِ النمر لا يتواضع لعدوه، وفي الثبات كالصخر لا يزول من مكانه، وهذا ما تحلى به رجال الرجال في ميادين القتال، هؤلاء هم (الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأموالهِمْ وَأنفسهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئك هُمُ الصَّادِقُونَ).
لقد ترسخت في عقولهم ووجدانهم ومشاعرهم الثقافة القرآنية والهُــوِيَّة الإيمانية والشجاعة الحيدرية والأصالة اليمانية والنخوة العربية.
هذا هو الإيمان، وهذه آثاره وثمرته، يموت ليحيى غيره، يجوع ليشبع غيره، يسهر لينام غيره، يتعب ليرتاح غيره، لقد مثَّل الشهداء: عمار بن ياسر في إيمانه ومالك الأشتر في شجاعته والإمام علي في غيرته ومحبته للشهادة، وهذا هو الفوز العظيم في جنات النعيم (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئك رَفِيقًا)، ولذا لا بد أن نعي ونفهم أن الشهداء قدموا أغلى ما يملكون في هذه الحياة، وهي أرواحهم ودماؤهم فداءً لدينهم ووطنهم ونصرة للمظلومين والمستضعفين لكن الله سبحانه هو الذي يعلم بفضلهم وكرامتهم وسيجازيهم الجزاء الأوفى، فعن قتادة، أنه قال: “إن الله تعالى أعطى المجاهدين ثلاث خصال: من قُتِلَ منهم صار حياً مرزوقاً، ومن غلب أعطاه الله أجراً عظيماً، ومن عاش يرزقه الله رزقاً حسناً”.
والآن أقف مع شهيدين من الشهداء الكرام، أبليا بلاءً حسناً وقدما مواقف مشرفة، تُرضِي الله وتُرضِي رسوله، شاهدتهما عبر الشاشة وفي ميدان المواجهة وجبهات القتال، أحببت أن أتبرك بذكرهما، وأفتخر بمدِيحهما؛ لأَنَّ الشهداء عنوان فخرنا ووسام شرفنا وتاج رؤوسنا.، وهذان الشهيدان هما: الشهيد الأول: “أبوشهيد الجرادي”، والشهيد الثاني: “أبو فاضل طومر”.
أما “أبو شهيد الجرادي” ومن خلال متابعتي لمواقفه البطولية وحكمته وحنكته في إدارة المعركة تخطيطاً واستطلاعاً وخبرة، كان لا يهاجم العدوّ ولا يتقدم إلاَّ بعد رصد دقيق وخبرة عالية ورسم ميدان المعركة من جميع الاتّجاهات، وبعد الأخذ بالأسباب يأمر أصحابه وأفراده بالصبر والثبات والتوكل على الله والتقدم لمواجهة العدوّ منهم المقتحم وأبو شهيد في طليعتهم ومنهم المهاجم ومنهم المدافع.
ومن شجاعة “أبو شهيد” وتواضعه، كان أفراده لا يشعرون هل هو في مقدمة الصفوف أم في مؤخرتها؟!؛ لأَنَّه كان يعامل نفسه وكأنه فرد من سائر الأفراد، يعز عليه أن يتعالى، أَو يميِّز نفسه على أفراده، بل لقد كان يقوم بخدمتهم ويتفقد شؤونهم ويتلمس احتياجاتهم حتى في أثناء المعركة، وهذا هو شأن القائد القُدوة مع أفراده ورفقائه.
أما بالنسبة لشجاعة “أبو شهيد الجرادي” وبطولته، فقد شهدت له ميادين القتال في كُـلّ الجبهات، أرعب العدوّ ونكَّل به، ودمّـر عتاده وعدَّته في كُـلّ الجبهات وما الساحل الغربي إلا أصدقَ شاهدٍ وأعظم دليلٍ، حَيثُ تحوَّلت الأرض إلى بركان تحت أقدام المرتزِقة، وأحرقت الحجار والتراب، بخلاف الدبابات والمدرعات والآليات.
وأخيرًا ذهب ليستطلع العدوّ على متن دراجة نارية مع بعض من أفراده، فمشى بعيدًا، ولم يشعر إلاَّ وهو بين يدي الأعداء أسيراً، الذين باشروه بإطلاق النار وأعدموه مع رفيقه، واختارهما الله شهيدين، ومن حسن حظ “أبو شهيد” لم يعرف المرتزِقة أنه قائد القوات الخَاصَّة، فكانت عليهم هزيمة فوق الهزيمة.
ولم يعرف أفراده أين هو؟، ولا أين ذهب؟، ولم يعرفوا أنه قد أُسر واستشهد؛ لأَنَّه كما قلت: كان يعامل نفسه معاملة بقية الأفراد، ويمشي في أوساط الناس وكأنه فرد من سائر أفراده، هذا هو شأن القائد المحنك، همة عالية وإرادَة قوية وعزيمة لا تلين، فسلام الله عليك يا “أبو شهيد الجرادي” مجاهداً وجريحاً وشهيداً، وسلام الله على جميع الشهداء المؤمنين الصادقين الأوفياء، وأقول لهم: أبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم.
الشهيد الثاني: “أبو فاضل طومر” الشاب التقي، والمؤمن القوي، أقول له: “أي رجل أنت يا “أبو فاضل طومر”؟ أي بطل أنت؟، أي مؤمن أنت؟، أي غيرة تحملها؟، وأي شجاعة تربيَّتَ عليها، سلام الله على البطن الذي حملتك، وعلى الثدي الذي رضعت منه، سلام الله على والديك اللذين ربَّاك على هذه الشجاعة والإباء والبطولة والفداء، سلام الله على المدرسة الحسينية التي تخرَّجت منها يا “أبا فاضل”، أي وفاء مع زملائك ورفقاء دربك؟، يعز عليك أن تشاهدهم وهم محاصرون، وَإذَا بك ترفل في الصحراء تحت رصاص وحوش البشرية وذئاب الإنسانية، كلاب أهل النار، من يقتلون أهل الإيمان ويَدَعُون أهل الأوثان، دواعش آخر الزمان، فلله درَّك من أسد بين أثوابك، يا “أبا فاضل” لقد تحقّق فيك كلام الإمام علي -عليه السلام- لمَّا أعطى الراية محمد بن الحنفية: “تزول الجبالُ ولا تَزُل، عُضَّ على نَاجِذَك، أعر الله جُمجُمتك، تِدَّ في الأرض قَدَمَك، إرْمِ ببصرِكَ أقصى القوم”.
هنيئاً لك يا “أبا فاضل” وأنت تلفظ أنفاسك الأخيرة في ميدان الشرف والكرامة بين يدي الله وفي سبيل الله وتحت راية أعلام أهل البيت، في تلك الساعة ودمك الطاهر ينزف في الصحراء، لكن الله يباهي بك الملائكة وتشتاق الحور العين إلى لقائك؛ لأَنَّك أوفيت بعهدك وصدقت في بيعتك لله ولقيادتك، (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
أنت يا “أبا فاضل” لقد رفعت رأس أبويك ورأس قيادتك ورأس اليمانيين وقهرت أعداء الله، فَنَمْ قرير العين لقد حُزْتَ شرف الدنيا ونعيم الآخرة يا “أبا فاضل”، لقد قدمت نموذجاً سوف يُخلَّد في ذاكرة الأجيال جيلاً بعد جيل، وأتمنى من الدولة ألا تنسى هؤلاء الأبطال وما قدموه من التضحية والفداء، دفاعاً عن دينهم، ووطنهم، وكرامة شعبهم، وفي المقدمة وزارتا التعليم العالي والتربية والتعليم يجب أن تُدرجا مواقفهما وتضحياتهما ضمن المناهج الدراسية، وتُدرس في جميع المؤسّسات التعليمية بدءاً بالمدرسة وانتهاء بالجامعة والأكاديمية.
وأخيراً: إذَا كانت لنا من كلمة شكر، فهي لرجال الرجال المرابطين في جبهات القتال، فلهم من الله الأجر والثواب، ومنا الدعاء والاستغفار، طالبين منهم المسامحة، وقبول الاعتذار، لعدم مشاركتنا لهم في ميادين الجهاد.