كيف تضيّع مملكة؟
عامر محسن *
خلالَ نقاشٍ عن السُّعُـوْدية منذ سنوات، ذكرت باحثةٌ أَميركية متخصصة بدراسة المملكة أنّ «النّظام السُّعُـوْدي أكثر ديمقراطية من النّظام الأَميركي»!!، ثمّ أكملت حديثها كأنّ هذه الفرضية بديهية وواضحة ومتّفق عليها..!
لدى سؤالها باستغرابٍ عن المعنى، شرحت الأكاديمية أنّ حكّامَ السُّعُـوْدية، مع أنّهم لا يملكون مؤسساتٍ تمثيلية حقيقية، إلّا أنّهم واعون بالكامل لهذا الواقع؛ لذا، فهم «يبقون آذانهم ملتصقة بالأرض»، ويرصدون كُلَّ تبدّلٍ في المزاج الشعبي ومطالبَ الناس واحتجاجاتها، ويتفاعلون ويتعاملون معها، وهذا من أسرار بقائهم طوال العقود الماضية.
أمّا في بلدٍ «ديمقراطي» كأَميركا، فإنّ أزمةً اقتصادية مدمّرة تسحق السوق، فيخسر الملايين وظائفهم ومنازلهم ومأواهم، وتعصف بالطبقات الشعبية تحولات عنيفة، فلا تلتفت الحكومة إلَى كُلّ هذا، بل تنفق آلاف المليارات لإنقاذ المصارف الكبرى والمؤسسات المالية الّتي تشكّل ـــــ في الحقيقة ـــــ الصّوت الوازن والفاعل ضمن النّظام، ومن دون أي اعتبار لحاجات الأغلبية ومعاناتها.
بهذا المعنى، كان بنو سعود يتفاخرون بـ «الحكمة الفطرية» التي أدار آباؤهم بها البلاد، ورفضهم الوصفات «التحديثية» (سواء على طريقة شاه إيران أم على طريقة البنك الدولي)، واعتمادهم طريقتهم الخَاصَّـة في بناء المؤسسات وارضاء الفئات الشعبية وتوزيع الريع. من هنا، مثلاً، رفض الملك فهد بشدّة في أواخر الثمانينيات ـ حين انحدرت أسعار النفط إلَى حضيضٍ يشبه مقامها اليوم ـ أيّ تعديلٍ بنيوي في «العقد السياسي» الذي يربط الحكومة بالمواطنين، وفضّل أن تدخُلَ الدولة في عجزٍ مزمن طوال التسعينيات، وأن تراكم ديوناً ضخمة، على القيام بأيّ خفضٍ في الإنفاق الاجتماعي أَوْ في امتيازات السُّعُـوْديين (وهو ما كانت تنصح به، دون كلل، المؤسسات الدولية وبيوت الخبرة).
اليوم، على ما يبدو، يقود السُّعُـوْدية حكّامٌ يستمعون إلَى مستشارين أجانب بدلاً من ممثلي القبائل.. الحكاية تمّ تأكيدها، وهي تصلح كبدايةٍ لقصّة انهيار مملكة: وجد أمير شاب (نجل الملك) بلدَه في أزمة، واقتصاده يسير على طريقٍ آخره الخراب؛ فجلب مستشارين أجانبَ من شركة «ماكنزي» ودفع لهم مالاً لكي يكتبوا له دراسةً، ثمّ اعتمدها خارطة طريقٍ ورهن، بها، مستقبل مملكته.
منذ أسابيع، تقول تقاريرُ إنّ «الاصلاحات» التي بدأت تظهر (من ضريبة القيمة المضافة إلَى رفع أسعار الطاقة) هي جزءٌ من خطّةٍ شاملة وجذرية، يدفع بها «ولي ولي العهد» بُغية إعادة هيكلة الاقتصاد السُّعُـوْدي، وأنّ خطوطها الأساسية موجودة في دراسة أعدّتها شركة «ماكنزي» العالمية للاستشارات، تحت عنوان «السُّعُـوْدية بعد النفط».
في مقابلته الأَخيرَة مع مجلّة «ذا ايكونوميست»، حيث تكلّم محمّد بن سلمان بصفته ملكاً للسُّعُـوْدية، أكّد الأمير الشاب هذه الأخبارَ، إذ كرّر ـ بالحرف ـ خلاصات الدراسة وتكلّم بمنطقها وتبنّى مقترحاتها التفصيلية، حتّى أنّ الصحافي الذي أجرى الحواَر سأله مباشرةً عنها وعن دورها في صياغة «الرؤية» التي قدّمها الأمير.
الدّراسة مثيرة للاهتمام، وهي تنطلق من فرضية بسيطة، يعرفها كُلّ من درس السُّعُـوْدية، وتقول إنّ المملكة، إن استمرّت على منوالها الحالي، فهي ستواجه الإفلاسَ ولن تتمكن من استيعاب الجيل الطالع من شبابها. لا داعي لتكرار المشاكل البنيوية التي يعاني منها الاقتصادُ السُّعُـوْدي والدّور الذي تلعبه الدولة في المجتمع، ولكن يكفي ذكر هذا الرّقم من دراسة «ماكنزي»: ثمانون بالمئة من دخل الأسر السُّعُـوْدية، أي من كامل مصروف المواطنين واستهلاكهم، مصدره رواتب من الدّولة، التي يشكّل النفطُ تَقْريباً كُلَّ عائداتها – وحجم اليد العاملة السُّعُـوْدية، التي تحتاج إلَى وظائف وتتوقعها، سيتضاعف في الـ 15 عاماً القادمة (الدّراسة قدّمت قيمة حسابية لهذه النّبوءة، فقدّرت أنّ المملكة، من دون خطّة انقاذٍ طارئة، سيتحوّل فائضها المالي إلَى عجزٍ بقيمةٍ تفوق 2 تريليون دولار عام 2030 ـ أي أن ماليتها ستنهار قبل ذلك التَأْريخ بكثير).
التّشخيص لا خلاف عليه، ولكنّ المشكلة هي في الحلول.. حتّى نفهمَ مقدار «واقعية» الدراسة، يمكن أنّ نذكرَ أنّ الباحثين قد اعترفوا، في المقدّمة، أنّهم لم يأخذوا العوامل السياسية في عين الاعتبار لدى تخطيطهم لمستقبل البلد، ثمّ يزيدون في فصلٍ آخر أنّهم لم يشملوا قطاع النفط والغاز ودوره في دراساتهم واقتراحاتهم، وأنهم يفترضون أنّ مصروفَ الدولة السُّعُـوْدية على الرواتب لن يزيد ريالاً خلال العقد والنصف القادمين.. اقتراحات المستشارين فيها ما يذكّر بالتقارير التي كانت تكتبها الوكالات الأَميركية و«خبراؤها»، في الأشهر التي تلت اجتياح العراق، لإعادة بناء اقتصاد البلد وفق قواعد السّوق الحرّة. هم وُضِعوا ـ كمستشاري «ماكنزي» ـ في موقع من يخطّط مركزياً لاقتصاد تقوده دولة، كأنه ستالين، ولكنّهم لا يملكون، معرفياً وأيديولوجياً، من أدواتٍ وحلول غير تحرير الأسواق ونماذج البنك الدولي.
النتيجة: توقُّعات رغبوية بأن تخلق «السوق» قطاعاتٍ كاملة من العدم (منها ازدهار السياحة والمرح في السُّعُـوْدية، مثلاً)، وشعباً يصير ـ لا نعرف كيف ـ منتجاً وفعالاً وماهراً، و(هنا الأهم) وصفات ليبرالية تعني في حال تنفيذها تفكيك دولة الرعاية وهدمها.
أهمُّ ما جاء في كلام محمّد بن سلمان للإعلام لم يكن في التصريح عن إمكانية بيع أجزاء من «أرامكو» (وهو ما استحوذ على اهتمام الصحافة الغربية)، بل في إعْلَانه النيّة بإنهاء أشكال الدعم الحكومي، وتخصيص المؤسسات العامّة والتخفف من كُلفتها، وقد ذكر الصحّة والتعليم كأمثلة على ذلك.
سوف تكشف السنوات المقبلة مغزى هذه «الاصلاحات» وثمن إعادة النّظر بالنظام التوزيعي برمته، ولكنّ اقتباساً من المقابلة يعطينا فكرةً عن مقدار تماهي بن سلمان مع شعبه وفهمه لظروفه.. حين سأله الصحافي عن وضع النساء وسبب غيابهن عن السوق والاقتصاد، أصرّ الأمير «التقدمي» على أنّه «لا توجد أي عوائق أمام مشاركة النساء» في السُّعُـوْدية، مضيفاً: «(المشكلة هي في) ثقافة النساء في السُّعُـوْدية، في المرأة ذاتها. هي ليست معتادة على العمل… نسبة كبيرة من النساء السُّعُـوْديات قد اعتدن على المكوث في المنزل»!
* الأخبار البيروتية