ربيعُ اليمن.. كيفَ أخفقت سياساتُ التدخُّلِ الدولي في رِعايةِ الانتقال الديمقراطي وإنقاذ الدولة؟
دخل المجتمع الدولي والإقليمي بقوة على مسار الأحداث وكان دوره حاسماً في ضبط مسار ونتائج الأحداث وتصميم نموذج الانتقال من خلال “المبادرة الخليجية” والتوجيه المفاهيمي والنظري لمؤتمر الحوار
كتب / عبدالملك العجري
كانت اليمن ثالث دولة عربية بعد تونس ومصر اكتسحتها موجة ما سمي حينها بـ”الربيع العربي”. وفيما عدا هذا القاسم المشترك، اتخذت اليمن مساراً مختلفاً؛ ففي مصر وتونس قادت الدولة الحوكمة الوطنية وتولى الجيش الإشراف على سير العملية الانتقالية والإصلاحات الدستورية والديمقراطية لمؤسسات الدولة، في حين كان الأمر مختلفاً تماماً في اليمن؛ فقد دخل المجتمع الدولي والإقليمي بقوة على مسار الأحداث وكان دوره حاسماً في ضبط مسار ونتائج الأحداث وتصميم نموذج الانتقال من خلال “المبادرة الخليجية” والتوجيه المفاهيمي والنظري لمؤتمر الحوار والإشراف على المرحلة الانتقالية، وإبقاء القضية اليمنية قيد النظر الدولي، ورغم إصرار المتظاهرين في الساحات على توصيف أحداث فبراير بالثورة الشعبية نظير ما حدث في تونس ومصر إلا أن مقاربة المجتمع الدولي للأحداث في اليمن على حد ياسين سعيد نعمان “أنه بلد أخذ يشكل خطراً على نفسه وعلى أمن الإقليم والمجتمع الدولي”، دولة هشة ونظام منقسم على نفسه وتنذر المواجهات المحتملة بين طرفي النظام بانهيار الدولة ما يستدعي التدخل الخارجي لإرساء الاستقرار على نحو ملحّ، وعلى حد توصيف وثيقة مخرجات الحوار الوطني: “عندما أصبح الوضع السياسي في عام 2011 ينذر بحرب أهلية لم يكن تأثيرها ليقتصر على اليمن فقط بل قد يمتد للتأثير على دول الجوار وعلى أمن خطوط الملاحة البحرية، ووجد المخلصون من أبناء اليمن ومكوناته أنفسهم – ومعهم المجتمع الدولي عموماً والخليج خصوصاً – أمام مسؤولية تاريخية وإنسانية تقتضي التدخل السريع لاتخاذ مخرج وحل سياسي ينزع فتيل المواجهة ورسم خارطة طريق للانتقال السلمي عبر المبادرة الخليجية 3 أبريل 2011م”.
تحولت الثورة لنقيضها عندما تحولت “ساحة الجامعة” في العاصمة صنعاء من منصة لثورة الشعب إلى منصة لإعادة تصدير رجالات العهد القديم المنشقين على صالح
في مرافعة ياسين سعيد نعمان عن الثورة والمبادرة أشار إلى أن الانقسام الرأسي للنظام سهل لـ “صالح” تجييره لصالحه في تصوير الوضع على أنه صراع داخلي، لكن الأخطر من ذلك أن الانقسام الرأسي للنظام أفرز انقساماً رأسياً للمجتمع أيضاً، ذلك أن أي ثورة تحدث عادة تكون نتيجة للتناقض الشديد بين مصالح الطبقة المسيطرة وبين بقية فئات الشعب المسحوقة ذات المصلحة من التغيير الثوري، وثورة فبراير فـي بدايتها كانت تعبيراً عن هذا التناقض، لكن عندما تحولت “ساحة الجامعة” في العاصمة صنعاء من منصة لثورة الشعب إلى منصة لإعادة تصدير رجالات العهد القديم المنشقين على “صالح” من قيادات الإصلاح والجنرال علي محسن وأسرة آل الأحمر، فإن الثورة تحولت لنقيضها وطغى عليها الوجه الحزبي سيما أن الفصيل المنشق عنه يتشابه مع نظام “صالح” لحد التطابق فـي خصائصهما ومصالحهما الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبفعل هذا الانشقاق أو ” الانضمام إلى الثورة” فقد المتظاهرون استقلاليتهم وتمسكت جماهير الأحزاب -في الساحات- بقياداتهم ما دفع الأحزاب الأخرى إلى فعل الأمر ذاته، ودفع جماهير “المؤتمر” المسحوقة – التي لا يختلف وضعها عن وضع معظم فئات الشعب اليمني – إلى التمسك بقياداتها، وربما لو حافظ الشباب في الساحات على استقلالهم وواصلوا مطالبهم لما استطاع “صالح” أن يتمادى في استخدام القوة وربما كان التنازل لصالح ثورة شعبية أسهل على “صالح” ونظامه من التنازل لصالح شركائه المنشقين عنه.
مقاربة المجتمع الدولي والإقليمي حكمت المرحلة الانتقالية، وأصبحت الخيار الذي فرضه الرعاة على النخب السياسية في السلطة والمعارضة
في نهاية المطاف كانت مقاربة المجتمع الدولي والإقليمي هي التي حكمت المرحلة الانتقالية، والخيار الذي فرضه الرعاة الإقليميون الدوليون على النخب السياسية في السلطة والمعارضة، وسهل تقديم المشترك نفسه معبراً عن الثورة للمجتمع الدولي والإقليمي إيجاد طرف للإمساك به لاحتواء وتكييف الثورة وضبط حدود التغيير بما يخدم مصالحهم الاستراتيجية، وفي نفس الوقت إظهار هذه العملية وكأنها استجابة لتطلعات الشعب اليمني في الانتقال السلمي للسلطة، فاليمن أصبح لديه “رئيس جديد”، وكان هذا هو مطلب اللقاء المشترك.
لا نريد هنا أن ندخل في سرد مسار أحداث وقائع العملية الانتقالية أو محاكمة أهداف المتظاهرين بقدر ما نريد استكشاف أهم المفاهيم والتدابير التي يستعين بها المجتمع الدولي لإعادة بناء “الدول الفاشلة” في ضوء قدرتها على معالجة أزمة الدولة اليمنية ومن المهم -حتى تتضح الصورة- أن نلقي نظرة سريعة على خلفية الدولة الفاشلة من مفهوم دولي وتقييم الأساليب، والأدوات التي يعتمدها لإعادة بناء الدولة الفاشلة.
“الدولة الفاشلة” من أهم المفاهيم الاستراتيجية الذي يعبر عن توجه السياسة الخارجية للولايات المتحدة والمجتمع الدولي
يعد مفهوم “الدولة الفاشلة” من أهم المفاهيم الاستراتيجية التي تعبر عن توجه السياسة الخارجية للولايات المتحدة والمجتمع الدولي بداية من التسعينات مع نهاية الحرب الباردة، حيث “اعتبرت الدولة الفاشلة” أو “الهشة” خطراً يهدد الاستقرار والأمن الدوليين، تُعرَّف الدولة الفاشلة أو الهشة بأنها تلك التي تعاني من عجز في القيام بوظائفها في رعاية وحماية مواطنيها ومسؤولياتها السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية وعجز النخبة السياسية عن حل مشاكلها لوحدها والخروج من دورة الفشل من دون تدخّلات خارجية مكثّفة.
ارتبط ظهور مفهوم الدولة الفاشلة، بالتغيّر الحاصل في هيكليّة النظام الدولي بعد انتهاء الحرب الباردة، وأثر الفراغ الذي تركه سقوط الاتحاد السوفييتي وتفكك المعسكر الشرقي على انهيار الدولة في عدة مناطق من العالم والتهديدات المرتبطة بها، والانتهاكات الخطيرة تسببت فيها لحقوق الإنسان في “الصومال” و”هاييتي” و”كمبوديا” و”البوسنة” و”كوسوفو”، إضافة لبروز الولايات المتحدة الأمريكية دولة قائدة للنظام العالمي، واعتمادها رؤية استراتيجية جديدة لإعادة هندسة النظام الدولي.
جاءت أحداث 11 سبتمبر 2001م لتعد المسرح لأجندة مختلفة تتصل بتهديدات أمنية جديدة زاد من الاهتمام العالمي بمخاطر الدول الفاشلة، وراج توجه سياسي وأكاديمي يربط ما بين ظاهرتي الدول الفاشلة والأنظمة السلطوية وانتشار “الإرهاب” والهجرة، والفقر، ودعا إلى دمج سياسة التدخل الخارجي لإعادة بناء الدولة الفاشلة على جدول الأعمال الدولية، وتطوعت الولايات المتحدة لحمل هذه المهمة، وفرض الديمقراطية (الليبرالية) كاستراتيجية لمحاربة الاستبداد و”الإرهاب” بحجة منع تحول هذه الدول لملذات آمنة للإرهاب الدولي، وتهريب السلاح، وتدفق المهاجرين وغيرها من المخاطر باعتبارها شرطاً أساسياً لتوفير الأمن العالمي.
وساعد التحول الديمقراطي السهل والسريع لدول أوروبا الشرقية إلى الديمقراطية اللبرالية– بمساعدة الولايات المتحدة والغرب الرأسمالي – وارتفاع عدد الدول التي تتبنى النظام الديمقراطي الليبرالي وأعداد الناس الذين يعيشون في ظل نظام ديمقراطي وتوسع الالتزام العالمي باقتصاد السوق الحر، على انتشار روح تفاؤلية تقدم الديمقراطية الليبرالية كحل سحري لكل المشاكل، وأنها يمكن أن تنتشر في أماكن وفي أي ظروف بنفس المرونة (سنعرج لاحقا على أسباب سهولة انتشارها في أوروبا الشرقية)، ومن ثم أصبح جوهر عملية إعادة بناء الدولة يركز على قضايا التحول الديمقراطي الليبرالي وحقوق الإنسان والمشاركة والإصلاح السياسي والاقتصادي.
تتألف استجابة التدخل الدولي لمواجهة مخاطر ما تسمى بالدولة الفاشلة من أدوات سياسية ودبلوماسية وتنموية واقتصادية وأمنية وعسكرية حسب درجة المخاطر لإعادة بناء الدولة الفاشلة أو الضعيفة، فقد تكون مباشرة تنطوي في أغلب الأحيان على عمليات قسرية أو عسكرية، كما حصل في العراق وأفغانستان، أو عن طريق الإشراف الأممي أو الإقليمي على الحوكمة الوطنية، أو غير مباشرة عبر قرارات مجلس الأمن وممارسة الضغوط السياسية والعقوبات الاقتصادية وأدوات الهيمنة الناعمة لتطويع الدولة المستهدفة، إضافة لجعلها ركيزة أساسية في عمل المؤسسات الاقتصادية الدولية كالبنك وصندوق النقد الدوليين اللذين أصبح على عاتقهما – على حد الدكتور الأفندي – التأثير في السياسات الاقتصادية للدول في الاتجاه الذي يرسخ نظام الحرية الاقتصادية وإطلاق المبادرات الخاصة، وعلى المستوى الرسمي سعت الإدارات الأمريكية ومجتمع المانحين إلى ربط عونها ودعمها الاقتصادي لدول العالم الثالث بإجراء إصلاحات اقتصادية جذرية.
“التدخل الدولي في تعامله مع الدول الفاشلة مثل الطبيب الذي يقدم ذات الوصفة لكل مرضاه ولكل الأمراض
لكن حصاد ثلاثة عقود من التدخل لبناء الدول الفاشلة أو المتهمة بالفشل الذي حملت لواءه الولايات المتحدة جاءت مخيبة لكل التوقعات، ومثّل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وسيطرة طالبان بعد عشرين عاماً من الجهود الأمريكية بحجة بناء دولة ديمقراطية في أفغانستان شاهداً على فشل الحوكمة، ولا يختلف الوضع في العراق (اليمن كما سيأتي يقدم شاهداً إضافياً على فشل الحوكمة التي يهندسها ويشرف عليها الخارج)، وبحسب العديد من المراقبين أدت هذه التدخلات إلى إجهاض قدرة المجتمعات والنخب الوطنية على ابتكار الحلول الوطنية وإجهاض التطور الطبيعي التراكمي للدولة، و بدلاً من دعم قدرات الدول الضعيفة والتكامل معها طغى عليها وحشرها خارج عملية البناء، أي حين يجري أداء وظائف الدولة فإن القدرة الأهلية لا تتزايد – على حد عبارة الخبير الأمريكي فرانسيس فوكوياما.
التدخل الدولي في تعامله مع الدول الفاشلة مثل الطبيب الذي يقدم ذات الوصفة لكل مرضاه ولكل الأمراض، وكما لا يتوقع تماثل أي منهم للشفاء، كذلك التدخل الدولي يقدم مصفوفة معالجات جاهزة وموحدة لكل البلدان المعنية في كل مكان وتحت أي ظروف وشروط لذلك لا نجد دولة واحدة نجحت، وفشلت اقتصاديات السوق والسياسات الاقتصادية المشروطة للدول المانحة وصفات البنك والصندوق الدوليين “التكيّف الهيكلي” في تحقيق الأحلام الوردية التي قطعتها للدول التي تراجعت عن الاشتراكية، وكان الاعتقاد أن هذه الإصلاحات (الخصخصة ورفع الدعم وزيادة الضرائب) كفيلة لوحدها بتحقيق النموّ والتطوّر والقضاء على الفقر، وجاءت نتائجها مغايرة؛ فتحرير التجارة والتوسع في الانفتاح الاقتصادي -على حد عدد من الدارسين -كانت إحدى آليات إنتاج الفقر على نطاق واسع لأن البنية الاقتصادية العربية لا تمتلك الشروط الضرورية للكفاءة الإنتاجية التنافسية، وهو ما أدى إلى زيادة نسبة البطالة وتكريس التخلف والتبعية وتدمير الرعاية الاجتماعيّة، وإثراء النُخَب، والتمييز الطبقي، وتنظيم المجتمع على مبادئ الربح والجشع والمزاحمة، لا على مبادئ التعاون وخدمة الحاجات الإنسانيّة. وباعتراف ميلتون فريدمان – عميد اقتصاد السوق الحر عام 2001م، الذي قال في العقد السابق – “كان لدي ثلاث كلمات للدولة المتحولة من الاشتراكية وهي خصخص خصخص خصخص، لكني أخطأت بعد أن تبين لي أن حكم القانون ربما أكثر محورية من الخصخصة”([1]).
خلاصة خطة التدخل الدولي لإعادة بناء الدول الفاشلة وتحويلها لدول ديمقراطية تبدأ بفرض مصفوفة من التعديلات الهيكلية والدستورية تسمح بوجود شكل من التعددية والانتخابات غالباً ما تكون شكلية، والالتزام بـ”الوصايا العشر” للبنك والصندوق الدوليين، ومنظمة التجارة العالمية تقدم شروط الاعتماد في نظام السوق العالمية، وباعتبار الولايات المتحدة هي الراعي العالمي لنظام العولمة، تتولى السفارة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي توزيع “صكوك القبول” وخلع الألقاب الديمقراطية على القوى والأحزاب التي تندمج في نظامها، و”صكوك الحرمان” الديمقراطي على الأحزاب والقوى والدول المتمسكة بالاستقلال والخارجة على إرادة راعي النظام العالمي مهما كان نظامها الداخلي وحجم تأييدها الشعبي، وتضع القيود وتفرض العقوبات على من يحاول الخروج عن “الوصايا العشر” للبنك الدولي ومجتمع المانحين أو يخفق في محاكاة القيم الغربية كقيم كونية، وبجانب السفارات تقوم منظمات المجتمع المدني الغربية بتدريب النخب السياسية والمدنية كيف يكونون ليبراليين لائقين، ونظراً لعدم وجود تعريف محدد للدولة الفاشلة معترف به دولياً (فمثله مثل الدول المارقة ومحور الشر ورعاية الإرهاب وحقوق الإنسان.. الخ) يتم تسييسه وتكييفه لخدمة مصالحها أو استخدامه مبرّراً لاجتياح بلدان معينة، ويكفي أن تخفق دولة ما في محاكاة السلوك المتوقع منها من قبل ما يسمى “العالم الحر” ليقصفوها بالدعاية الإعلامية السوداء وتشويه صورتها محلياً وعالمياً وإخافة قطاع المال والاستثمار منها، ويمطروها بأصناف العقوبات السياسية والاقتصادية، وانتهاك سيادة الدول دون وجود قيود قانونية دولية واضحة على سياسة التدخل، إذ يكفي أن يراود دولة من الدول القوية بعض مشاعر القلق من الدول الأضعف في جوارها أو حيث مصالحها لتبرير التدخل الاستباقي عسكري وغير عسكري وعلى حد تعبير فوكوياما “واجب الغرب التدخل ونزع السيادة عن الدول الضعيفة وتولي حكمها نيابة عن المجتمع الدول ضمن مفهوم جديد للسيادة المشتركة”.
الهدف الأساسي للتدابير التي يتخذها التدخل الدولي تجاه الدول المستهدفة تحقيق المصالح الاستراتيجية للدول الكبرى والنافذة أكثر من تركيزه على المشاكل الداخلية، كما يتم إغفال دور التأثيرات الخارجية في إفشال الدول النامية، وتأثير الطبيعة الاجتياحية والمتوحشة لنظام العولمة في توسع رقعة الاضطرابات الاجتماعية، وغياب العدالة والتكافؤ بين دول الغرب الغنية ودول الجنوب الفقيرة، والارتفاع الدراماتيكي لديون البلدان النامية، وانتهاك سيادتها وتهديدها بالتفكيك، وصعود ظاهرة “الإرهاب المعولم”.
النتيجة التي يمكن استخلاصها من كل هذه التجارب كما يقول روبرت د. كابلان في كتابه “انتقام الجغرافيا”([2]) بأن موروث الجغرافيا والتاريخ والثقافة تفرض حدوداً لما يمكن تحقيقه في مكان بعينه.. وأن المقدر للعالم أن تحكمه أنواع مختلفة من الأنظمة “وأن الطريقة الأسلم أن يترك للشعوب فرصة التطور بقدراتها وخصائصها الذاتية وأن تصل إلى الديمقراطية بطريقتها الخاصة وفي وقتها المحدد، وأن يترك لها أن تتعلم من الغرب ما يحتاجه وما هو مستعد له والانفتاح على تجارب بلدان شرق آسيا الناجحة ومؤسساتها الإقليمية التي توفر تنمية أكثر عدلاً، بدلاً من فرض القيم الغربية والوصايا العشر للبنك ومنظمة التجارة على الشعوب كقيم عالمية وبعبارة أخرى نعم للتحديث ولا للتدخل”.
لم يكن التدخُّلُ الإقليمي والدولي في اليمن لأهداف إنسانية أَو لحماية الشعب وتلبية مطالبه بقدر ما هو القلقُ المزعومُ من “اليمن الخطر
أزمةُ الدولة ونظريةُ اليمن الخطر
تصنيفُ اليمن كدولةٍ مهدَّدةٍ بالفشل لم يبدأ في 2011م وأحدَاث الربيع العربي وإن دخل معها مرحلة جديدة، فالتحذيراتُ الأمريكية والبريطانية من “فشل الدولة” بدأت في مرحلةٍ أبكر، ومنذ 2007م وفي 2009م تكرّرت الدعواتُ للحكومة اليمنية بضرورةِ التفكير بجدية في التحول نحو “الديمقراطية الحقيقية” وإجراء إصلاحات إدارية واقتصادية وَإلَّا فَـإنَّ اليمن في طريقها نحو الفشل.
وهي التصريحات التي كانت تتلقفها المعارضة آنذاك لإدانة نظام صالح دون إدراك لتداعيات الاستقواء بالخارج، طبعت أداء النخب السياسية في السلطة والمعارضة سياسة سلب اليمن حقوقَه السيادية وفقدانه السيطرة على قراره الوطني من دون أن توصله إلى برّ الأمان، وما حصل من أحداث في 2011 م شاهد إضافي، فاليمن منذ السبعينيات كانت قيد النظر السعوديّ، وَبموجب قرار مجلس الأمن (2014/2011م) انتقلت لتصبح قيد النظر الدولي، الذي بدوره أعاد تفويض الخليج والسعوديّة بالإشراف على تنفيذ الانتقال السياسي، أي أن التفويض السعوديّ في اليمن -هذه المرة- أصبح مسنوداً بغطاء دولي وإقليمي.
دوافعُ التدخُّل الدولي والإقليمي
التدخُّلُ الإقليمي والدولي في اليمن لم يكن لأهداف إنسانية أَو لحماية الشعب اليمني أَو لإحداث تغيير حقيقي يلبّي مطالبَ الثورة والشعب اليمني بقدر ما هو القلق المزعوم من “اليمن الخطر” وَتأثير انهيار الدولة في اليمن على المصالح الأمريكية وتحول اليمن لملاذ آمن للإرهاب، والقلق من إمكانية صعود نخبة سياسية جديدة غير متحمسة أَو متفاعلة مع أولويات الاستراتيجية الأمنية الأمريكية في اليمن أَو مع استمرار إشرَافها على إعادة هيكلة الجيش والأمن في الاتّجاه الذي يضمن استمرار “الحرب على الإرهاب” كعقيدةٍ قتالية للجيش اليمني ومؤسّساته الأمنية -على حَــدّ تعبير الدكتور محمد الأفندي- والاحتفاظ به مدخلاً للنفوذ في توجيه الجيش اليمني.
من جهة أُخرى فإن السعوديّة منذ نشأتها تنظر لليمن مصدر خطر وقلق دائمَين، فالجوار والشريط الحدودي الطويل بين البلدين قد يجعل من اليمن مصدر تهديد لأمن السعوديّة، سيما مع رداءة وعدم جاهزية القوات البحرية وحرس الحدود اليمنية، كما تنظر لليمن ساحةَ نفوذ لا غنى عنها للحفاظ على التوازن الإقليمي، وتخشى من تأثير التغيير في اليمن على التوازن الإقليمي، سيما تجاه النفوذ الإيراني والتركي، وغير ذلك يرى كثير من المراقبين أن بناء دولة قوية أَو ديمقراطية لم يكن من الأهداف المرغوبة للسعوديّة الراعي الحقيقي “للمبادرة الخليجية.”
كما يمثل باب المندب مضيقاً مهماً للمصالح الدولية، ما يجعلُه يُولَى أهميّةً لاستقرار المنطقة التي تعاني أصلاً من وجود دولة فاشلة وهي الصومال، إضافةً للجزر اليمنية الاستراتيجية في طريق الملاحة والمهمة في “الحرب الدولية على الإرهاب”.
الدافع الثاني: عدمُ ثقة الأطراف الدولية والإقليمية وبشكل أكثر تحديداً السعودية والولايات المتحدة بقدرة النخب اليمنية التقليدية في السلطة والمعارضة على إدارة مهام المرحلة الانتقالية دون مساعدة وإشراف مباشرٍ من المجتمع الدولي والخليج والسعوديّة تحديداً، وانعدام ثقة السعوديّة بالنخبة السياسية اليمنية ليس بالأمر الجديد وتراودها شكوكٌ مزمنة من التوجهات السياسية للنخب اليمنية، وزاد استقدامُ القوات المصرية في ثورة 26 سبتمبر ثم انتهاج اليمن الجنوبية النظام الاشتراكي من استحكام هذه الهواجس لدى حكام الرياض واستقر في قناعتها أنها إن لم تضع اليمن قيد نظرها فسيذهبْ إلى حَيثُ لا ترغب.
لذلك كان أحد أهم أهداف “المبادرة الخليجية” ضمان استمرار اليمن ضمن المعادلة الإقليمية والدولية سواء المتعلقة بمكافحة الإرهاب وفقاً للمنظور الأمريكي، أَو استمرار احتفاظ السعوديّة بدور اللاعب الأَسَاسي في المشهد السياسي اليمني وتمكينها من محاربة ما يسمي النفوذ الإيراني والإخواني أَو التُّركي في اليمن، وتعمدت المبادرة تجاهل تبعات هذه السياسات التي كانت مسؤولة لحدٍّ كبيرٍ عن هشاشة وضعف الدولة اليمنية وتحديد مسار السياسة الداخلية اليمنية.
النظرةَ الإقليمية والدولية لليمن مصدراً للخطر والتهديد مثلت بحد ذاتها مصدر تهديد لليمن والدولة اليمنية، وتسببت في ضعفها من ثم فشلها
نظريةُ اليمن الخطر وأثرُها على الدولة
إنَّ النظرةَ الإقليمية والدولية لليمن مصدراً للخطر والتهديد مثلت بحد ذاتها مصدر تهديد لليمن والدولة اليمنية، وأنتجت متوالية من السياسات والتدخلات السافرة في الشأن اليمني أضعفت السلطة المركزية للدولة اليمنية وأوصلت اليمن إلى الفشل.
منذ الستينيات كانت السعوديّة تنظر لليمن مصدر خطر عليها مرةً بحجّـة المد الناصري وأُخرى المد الشيوعي وثالثة المد الشيعي وحيناً المد التركي، لم تكن مقاربة الرياض جيوسياسية فحسب وإنما مقاربة أيديولوجية تتعدى استحقاقات الجغرافيا وقيم الجوار المعتادة، جوهرها “أن يبقى اليمن ضعيفاً بما لا يشكل تهديداً للمملكة، وقوياً بما لا يشكل تهديداً لها أيضاً” (وهو المبدأ الذي صيغت على أَسَاسه المبادرة الخليجية)، وخلال الخمسة عقود الماضية، لم تكن تتعامل مع اليمن من باب مؤسّسات الدولة، بل من نافذة مراكز القوى خارجها من خلال ما يُعرف تقليدياً بـ “اللجنة الخَاصَّة”، وَالتأثير على القرار السياسي عبر التزكيات والتعيينات لتولي مناصب معينة في الحكومة والمؤسّسات اليمنية، إضافةً للجمعيات الخيرية ودعم الجماعات السلفية والإغاثية وغيرها من الوسائل الناعمة ذات الفعالية الكبيرة التي خدمت السعوديّةَ في التغلغل في الساحة اليمنية بمعزلٍ عن الحكومة اليمنية.
“نظريةُ الدولة الضعيفة” التي استندت إليها السياسة السعوديّة وإن ساعدتها في التفرد باليمن لعقود إلَّا أنها تجلَّت في إضعاف الدولة وتآكل شرعيتها وسلطتها.
بعد أحدَاث 11 سبتمبر أصبح اليمن مصدر قلق للولايات المتحدة بحجّـة “الإرهاب” والخشية على الديمقراطية، وبصرف النظر عن أهداف الحرب الأمريكية على القاعدة في اليمن فَـإنَّ السياسات التي اتبعتها كانت على نفس المنوال الذي اتبعته السياسة السعوديّة بتجاوز السلطة المركزية، واتخذت من فساد السلطة وضعف قبضتها خارج المدن مبرّراً لفتح قنوات تواصلٍ مباشرة مع الزعامات المحلية أصحاب السلطة الحقيقية وتوزيع المساعدات عبرهم؛ بذريعة تجنب العمل عبر آليات الفساد التابعة للحكومة المركزية وبذلك تتمكّن -على حَــدِّ باحثة أمريكية- من إضعاف القاعدة وفي ذات الوقت مساعدة الشعب اليمني، فتحول بذلك دون انفجار البلاد من الداخل، لكن إذا نظرنا للنتائج على الأرض فَـإنَّ هذه السياسة أسهمت في إضعاف سلطات الدولة أكثر مما أضعفت القاعدة، وفي مفارقةٍ ملفتة بعد ما يقارب عشرَ سنوات من التدخل الأمريكي لمكافحة “الإرهاب” في اليمن وبعد أن كان الإرهاب يقتصرُ على أفراد يتسللون بين القبائل اليمنية، أعلنت القاعدة في 2009م تأسيسَ تنظيم القاعدة في جزيرة العرب في اليمن في تطورٍ ملفتٍ يعاكسُ الأهدافَ المعلَنةَ لحرب أمريكا على القاعدة في اليمن، الأمر الذي يثير التساؤل كما لو أن الهدفَ التحرشُ بالقاعدة وتحويل اليمن ساحةً للعبة مفتوحة معها ونقطة تجميع لعناصرها لأهداف لها علاقة بمطامع الهيمنة على اليمن، وصراع القطبية الدولي.
في 2011 م تطور الأمر ليصبح اليمن مصدرَ قلقٍ للمجتمع الدولي، ويقرّر مجلسُ الأمن وضع القضيةَ اليمنية قيد النظر الدولي، وفي 2015م قرّرت السعوديّة إعلان الحرب على اليمن؛ بذريعةِ القلق من النفوذ الإيراني، وهكذا كان القلق من اليمن بمثابة حصان طروادة الذي تسبب في خرابها.
إنَّ نظريةَ اليمن الخطر ساهمت في إضعاف الدولة اليمنية عبرَ مراحلها التاريخية وتحولت إلى نوعٍ من الدعاية السوداء التي شوّهت صورةَ اليمن إقليمياً ودولياً، وحرّضت الخارج والداخل عليه، وحين كان اليمن مستغرِقاً في مشاكله الداخلية كانت هذه الدعاية غير البريئة تزيد الأوضاع سوءاً وتعرقل الإصلاحات الخجولة بما فيها تلك التي يلحُّ في طلبها المانحون والمقرِضون، وكَثيراً ما يتلقف الإعلام الغربي والأمريكي أدنى حادثة ويصنعُ منها فزَّاعةً كبيرةً؛ بهَدفِ حشد التأييد الشعبي لحملات الولايات المتحدة العسكرية في العالم وَاليمن “الجغرافية المسكونة بالكائنات الشريرة” دون اعتبار لما لها من تداعيات سيئة على اليمن.
إن الفرضيةَ التي تزعمُ أن الصراعَ في اليمن قادرٌ على إشاعة فوضى خارج حدوده تتجاهل أن شرارات الصراع الداخلي لم تتطاير خارج حدوده إلَّا عندما كانت قذائفُ الخارج تكوي اليمن بألسنتها الحارقة، وكل الصراعات التي حدثت في اليمن بقيت تأثيراتها داخلية والأثر المحدود الذي يمكن تخيله لا يقارن بالآثار التي خلفها التدخلات الخارجية.
استمرارَ اليمن قيدَ النظر الدولي أَو الإقليمي يعني استمرارَ أزمة الدولة اليمنية وإبقاءَها مشلولةً معتمِدةً بدرجة أَسَاسية على الخارج
إن القلق الدولي هو في الحقيقة ناتجٌ عن القلق السعوديّ والأمريكي وهما من روّجا نظريةَ اليمن الخطر، وهي هاجِسٌ سياسي أكثرَ مما هو حقيقةٌ سياسيةٌ، فاليمن لم يكن مصدرَ خطر على السعوديّة وكان اليمن دائماً في موقع المعتدَى عليه، وكل المخاطر التي كان يتم افتراضُها لا تقارن بالكوارث التي تسبب فيهما لليمن.
الهواجسُ التي قد يكون مصدرها توجُّـهات أَو تصريحات بعض النخب السياسية، سواء القومية أَو اليسارية أَو الممانعة، لا يجب أن تكون مصدرَ قلق إلَّا إذَا تجاوزت اليمن إلى التدخُّل في الشؤون الداخلية للسعوديّة أَو تهديداً لأمنها القومي، وبالمقابل لا تبرّر أية تدخلات على حسابِ الدولة اليمنية وسلطتها المركزية، ولا يشترط أن تكونَ السياسةُ الخارجيةُ لليمن نُسخةً أُخرى للسياسة السعوديّة.
الخُلاصةُ: أن استمرارَ اليمن قيدَ النظر الدولي أَو الإقليمي إنما يعني استمرارَ أزمة الدولة اليمنية وإبقاءَها مشلولةً معتمِدةً بدرجة أَسَاسية على الخارج الذي هو في النهاية لن يستطيع أن يحل محل الداخل مهما حاول، وعندما يقرّر الخروج لن يترك خلفَه إلَّا فراغاً يتحَرّك ضد مصالح الداخل والخارج، ومن مصلحة السعوديّة المساعدةُ في وجود دولَة قوية تستطيع أن تؤمّن الاحتياجات الضرورية للناس حتى لا يتحول جزءٌ كبيرٌ من سكان اليمن إلى فائضٍ بيولوجي غير مؤهل إلا للقتال وممارسة العنف وتصدير عمالة رثة تشتغلُّ في التهريب.
وفرضيةُ أن اليمن إن لم يكن قيد نظر الرياض سيذهبُ لغيرها أَو سيشكل تهديداً لأمنها، وأن النخب اليمنية غير قادرة على إقامة علاقات متوازنة مع الأطراف الإقليمية والدولية لا تشكل تهديداً لأحد، مُجَـرَّدُ هواجسُ لا مبرّرَ لها، ربما أن تدخل عبد الناصر في ثورة سبتمبر ساهم في تعزيزها لكنها كانت حالة استثنائيةً، فتاريخياً الإمام يحيى استطاع أن يحافظَ على استقلال اليمن ولم يسمح أن تكونَ اليمن ساحةَ نفوذ لأية جهة رغم المحاولات الحثيثة لكُلٍّ من بريطانيا وإيطاليا وفرنسا آنئذ.
ثانياً: أن السعوديّةَ منذ السبعينيات هي مَن فرضت خياراتها على النخب السياسية والدولة اليمنية، وعرقلت أية قوى أَو توجّـهات لبناء دولة قوية ومستقلة.
ثالثاً: أن خيارَ الاستقلالية لا يعني بالضرورة العِداءَ ولا الخُصومةَ، ولا يمنع من إقامة أفضل العلاقات مع السعوديّة، واليمنُ قادرٌ على إقامة علاقات متوازنة مع محيطِه العربي والإسلامي ومع كـل الأطراف الإقليمية والدولية من مختلف التوجّـهات، في ضوءِ مصالحِه الوطنية واستحقاقات الجِوار وواجباته القومية والإسلامية والإنسانية.
كان من بين أهم أهداف مقاربة الرعاة لإرادَة العملية الانتقالية استمرارُ التوازنات المحلية والإقليمية، وإعاقة صعود شخصيات أَو قوًى قد تشكّل تهديداً لهذه التوازنات
النُّخبةُ والاحتواء.. أدواتُ المبادرة لإعادة التوازن
إنَّ أولوياتِ الدولِ الراعيةِ للمبادرة -إنْ في مكافحة الإرهاب وأمن الممرات أَو الحفاظ على علاقات مؤثرة للسعوديّة، كما سبق – كانت بمثابة موجه أَسَاسي في بناء وتصميم المرحلة الانتقالية، ومن ثَم كان من بين أهم أهداف مقاربتهم لإرادَة العملية الانتقالية استمرارُ التوازنات المحلية والإقليمية، بإبقاء الحُكم وإدارة العملية الانتقالية ضمن الدوائر التقليدية المعروفة والمضمونة سلفاً وإعاقة صعود شخصيات أَو قوًى سياسيَّة وشعبيّة قد تشكّل تهديداً لهذه التوازنات، وفي الحدود القصوى أن تكونَ مشاركتُها هامشيةً وغيرَ مؤثرة حتى يتم اختبارُها ومعرفة مدى استعدادها لاحترام قواعد اللُّعبة السياسيَّة واستعدادها للانخراط ضمن قواعد اللعبة المحلية والتوازنات الإقليمية.
أنتجت المبادرة تركيبة سياسية تمثل توليفة شديدة التناقض تفتقر للتجانس ولا يوجد بينهما ما يجمعُها على أهداف مشتركة
من بين المفاهيم التي كانت توجّـه سياسَة الرُّعاة الدوليين والإقليميين مفهومُ النُّخبة ورؤيته لمركز الفعل والتغيير في السلطة السياسيَّة والنخبة وأحياناً الطبقة الوسطى، وبالتالي تنزاح عن منظوره بقية القوى الشعبيّة (الطبقة الأوسع اجتماعياً والمهمشة سياسياً واقتصادياً)، وَيتعامى عن رؤية الصراع في ميدانه الأعم، وهو صراع يتجاوز صراع السلطة والمعارضة التقليدية (المؤتمر- “الإصلاح” والمشترك)، ولم تلتفت إلى القضايا التي يشتد عليها الطلب الاجتماعي، وعالجت مشاكل النخبة في السلطة والمعارضة ولم تعالج مشكلة الشعب، والمفهوم الآخر مفهوم الإصلاح بصفته عملية تدخل ترميمية على النظام القديم، وأهملت تحديد أولويات اقتصادية وأمنية عاجلة تساعدُ على انتقالٍ سلسٍ؛ باعتبَار أن هذا القدر من الإصلاحات يمكن أن يؤمن استعادة التوازنات المحلية والإقليمية وتحقيق والاستقرار الهش.
النخب السياسيَّة؛ باعتبَارها جزءاً من بنية السلطة وتنتمي إليها عضوياً فـإنَّ من مصلحتها تضخيمَ إمكانية الإصلاح وتفضيلها على التغيير، سيما وأن التحاق الطرف المنشق عن النظام بالثورة هو التحاق بالتسوية السياسيَّة وليس بالثورة لتوسيع مصالحها وليس بهَدفِ التغيير السياسي الشامل، ويتشابه مع النظام لحد التطابق فـي خصائصهما الاقتصادية والسياسيَّة فهم ينتمون إلى طبقة مهيمنة واحدة وإن كانت متنافسة، وبالتالي لم توفر إمكانية للخروج من معادلات الحكم المحلية والسياسات الخارجية التي ترسخت منذ السبعينيات، حيث أوصلت البلد إلى أزمة شاملة لا تزال نتائج تلك السياسات ومعادلاتها المعقَّدة تلقي بظلالها على المشهد الجديد وإن كان بأشكال مختلفة.
التركيبةُ السياسيَّة التي أنتجتها المبادَرةُ كانت توليفةً شديدة التناقض تفتقر للتجانس ولا يوجد بينهما ما يجمعُها على أهداف مشتركة، أما الاجتماع على مطالب المتظاهرين بالتغيير فَـإنَّها كانت مشلولة من بدايتها، وَإسنادها لهذه النخبة المتشاكسة وحدَه كان سبباً كافياً لتعطيل بقية عناصر ومهام المرحلة الانتقالية، ولم يكن خافياً على رعاة المبادرة؛ فهم بالأَسَاس لا يثقون بقدرة النخبة التي شكلتها المبادرة؛ ولذا حرصوا على إبقاء هذه النخب والأزمة اليمنية برمتها قيد النظر الدولي كما سبق، واعتمدت إدارةُ العملية الانتقالية بدرجة رئيسة على الخارج؛ لذا من الطبيعي أن تكونَ أولوياتهم هي الحاضرة بقوة في توجيه العملية الانتقالية، كما وجدت قوى المبادَرة فرصة للتنصُّل عن مسؤوليتها وانتظار ما يقدمه لها الإقليم والمجتمع الدولي وتولد عندها اعتقادٌ مبالَغٌ فيه في قدرات المجتمع الدولي وأن الحلَّ كله بيد الخارج عمـوماً والسعوديّة والولايات المتحدة على نحوٍ خاصٍّ لتحقيق الاستقرار في اليمن، ولا يظهر حسُّها الوطني إلَّا حين تشعر أن توجـهات الرعاة الإقليميين والدوليين قد تخل بحصتها أَو تمس مصالحها، وللأسف ما زالت النخب اليمنية حتى اليوم تنتظر ما سيقدمه لها الإقليم أَو الخارج والأمم المتحدة من حلول جاهزة وهي تكشف عن أزمةٍ أعمقَ للعقل السياسي اليمني، سواء نخب سياسيَّة أَو تكنوقراط أَو مجتمع مدني، العاجز عن إبداع وابتكار حلولٍ واقعية قابلة للتنفيذ ومناسِبة للبيئة اليمنية خارج الأنماط والقوالب الجاهزة التي يقدمها الغرب والأمم المتحدة.
سياسةُ الاستقواء بالخارج التي تطبعت عليها النخبُ السياسيَّة اليمنية منذ الستينيات والتسابق على الخارج عند كُـلّ محطة أَو أزمة سواء السلطة والمعارضة كانت نتائجُها تدميريةً على البلد والدولة.
قبل وأثناء أزمة 2011 كان النظام يستقوى على المعارضة بمزيد من التقرُّب إلى الولايات المتحدة باسم “مكافحة الإرهاب”، والمعارضة كانت تحاول أن تدفع النظام للاصطدام بالخارج، وكل طرف يحاول أن يقدم نفسه الحليفَ الأكثرَ ثقةً وإخلاصاً سواء للولايات المتحدة أَو السعوديّة، وَينتهز أية فرصة لإقناعهم بالتهديد الذي يشكّله الطرف الآخر على مصالحهم، صالح يحرّض الخارج على “الإصلاح” ومحسن بتهمة الإرهاب، والمشترك يتهم صالح بأنه ليس شريكاً صالحاً في محاربة الإرهاب، وبدلاً عن أن تتحمل المعارضة مسؤوليتَها الوطنية في مواجهة فساد النظام كانت تحاول أن تفوض المهمة للخارج وتجعله في مواجهة الخارج والعكس، هذه السياسة في حقيقتها السافرة كانت بمثابة تفويض من هذه النخب للخارج الدولي والإقليمي للقيام بمهمات الدولة والسلطة والمعارضة مع بعضها، تفويضُه بمحاربة الإرهاب وبحل مشاكل الحريات وحقوق الإنسان والمشاكل الاقتصادية ومشاكل الأحزاب فيما بينها وبمشكلة الجنوب ومشكلة صعدة ومشكلة الحوثيين وصولاً للحرب العدوانية في 2015م.
في كُـلّ هذه المحطات كان يحصل أن الخارج يأتي ويحشر الدولة والنخب السياسيَّة في زاوية، ثم يصرخون بأن الخارج خيّب ظنهم الحسن فيه، وكأن الخارجَ فاعلُ خير يتطوع بتحمل المتاعب ليبنيَ دولتهم المنشودة وبعد أن ينهي مهمته يسلّمها على صحائف من فضة ثم يجمع حقائبه ويغادر لا يريد جزاء ولا شكوراً. ويوزعون مهام الدولة على الأطراف الخارجية، الولايات المتحدة تتطوع لبناء الدولة المدنية الديمقراطية، صندوق النقد والبنك الدوليان يهندسان لهم تنمية اقتصادية شاملة، وَالسعوديّة تعيد لهم الشرعية وتخلّصهم من مشاكلهم السياسية والعائلية، وآخر ينتظرُ الدولةَ الموعودةَ من الإمارات.
اتسم تعامل رعاة المبادرة مع القوى الشعبيّة والثورية الصاعدة كأنصار الله وبعض فصائل الحراك الجنوبي بالحذر الشديد، والمجتمع الدولي بصفة عامة لا يرغب بالتعامل مع قوى لا يملك اليقين من مسارها السياسي وخط تحالفاتها الاستراتيجية، والتزامها قواعدَ اللعبة الديمقراطية والمعايير اللبرالية السائدة والإصلاحات المشروطة، لكنه في ذات الوقت مضطرٌّ للتعامل معها، سيما القوى ذات الشعبيّة الواسعة التي يصعُبُ تحقيقُ الاستقرار بدونها أَو التي تفرض سيطرتها على أجزاء معينة من إقليم الدولة، واحتمال وصولها للسلطة، لذلك حرص الرعاةُ على إبقاء أنصار الله وفصائل الحراك والقوى الثورية خارج المبادرة وعدم تمكينهم من أية شراكة في السلطة، والاكتفاء بإشراكهم في حدود معينة ضمن مؤتمر الحوار لاختبار مدى استعدادهم الانخراطَ فيما قبل السابقون الانخراطَ فيه.
لم يتخذ رعاةُ المبادرة أيَّة خطوة أَو تدابير حقيقية لإنهاء الانقسام ومعالجة أهم أزمتين في الشمال والجنوب وإعادة الأقاليم والمناطق الخارجة عن سلطة صنعاء وغيرها من الخطوات التي تطمئن أنصار الله وتساعدُ في إعادة هذه المناطق لسلطة صنعاء وإدماج أنصار الله في الحياة السياسيَّة، ومن ذلك استيعاب بعض قياداتهم في مؤسّستي الأمن والجيش وإعادة توزيعهم في مناطقهم وتعيين بعض مدراء المديريات والتسريع في وتيرة إعادة الإعمار، ووضع النقاط العشر والنقاط العشرين التي أقرتها اللجنة الفنية موضعَ التنفيذ وغيرها من التدابير العملية المساعدة في تحقيق انتقالٍ أكثرَ مرونةً.
إنَّ من أهم شروط نجاح العملية الانتقالية أن تتشكَّلَ كتلةٌ متجانسةٌ تمثل أغلبية سياسيَّة واجتماعية تتفق على رؤية موحدة للإصلاح وملتزمة بتحقيق الأهداف الثورية، وهو ما افتقدته تشكيلةُ المبادرة؛ فاليمنيون لا يرَون تغييراً في المشهد الجديد، وإنما بقي الصراع منحصراً في ذات القوى القديمة وحول نفس المعادلات والصيغ، وبدا اتّفاقُ نقل السلطة وكأنه إعادةُ توزيع للحصص والمناصب على أسس سياسية بين القوى القديمة نفسها، ولذلك شكّك كثيرٌ من المراقبين أن تدعمَ الجهات الراعية لاتّفاقية ظهورِ دولة ديمقراطية حقيقية تركّز على تلبية الطموحات والاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية لأغلبية المواطنين الفقراء.
تجاهل الظروف الموضوعية لأزمة الدولة اليمنية
كان مؤتمر الحوار بمثابة سلة تسوق غرق في تلبية مطالب النخب السياسية والطموحات الليبرالية لبرجوازية المدن على حساب معالجة القضايا الاجتماعية وحاجات المواطن الأساسية
يختزل رعاة المبادرة مقاربة بناء الدولة في عدد من المفاهيم التي كانت توجه سياستهم، مفهوم الاستقرار، ومفهوم النخبة، والتركيز على الإصلاحات الهيكلية في مؤسسات الدولة القانونية والدستورية، ولأن المجتمع الدولي كان على عجلة من أمره أعلى من دور الفاعلين في الإصلاح والتغيير على حساب البنى والإرادة على حساب الظروف الموضوعية لأزمة الدولة اليمنية.
احتلت قضية بناء الدولة مساحة واسعة من الحوار الوطني إلا أنه استغرق في تلبية مطالب النخب السياسية والطموحات الليبرالية لبرجوازية المدن على حساب معالجة القضايا التي يشتد عليها الطلب الاجتماعي وحاجات المواطن الأساسية، والقضايا التي تحتاجها بلد على مشارف الانهيار والتفكك، فكان مؤتمر الحوار بمثابة سلة تسوق جمعت فيه كل قضايا ومطالب القوى السياسية والمدنية المتعارضة، ولم تتعامل بجدية والمخاطر وعوامل التشظي والانهيار المتعددة، والاحتياجات الضرورية لاستشراف تطورها السلبي على مستقبل البلد والعملية الانتقالية، وانتهى مؤتمر الحوار دون أن يتمكن من تقديم إجابات لأهم القضايا التي تثقل كاهل البلد، وتم إحالة بعض القضايا المستعصية للجان خاصة ترك لها اتخاذ القرار في المسالة الجوهرية كانت بمثابة استكمال للفشل وإفراغ مؤتمر الحوار من مضمونه.
وعلى رأي الخبير الفرنسي “فرنسوا فريز ونروش” أستاذ القانون ووزير الخارجية الموريتاني السابق محمد الحسن لبات: “فقد عبر ذلك الطرح عن تقليل لأهمية ماضي اليمن المثقل”.
اتسمت عملية الحوار بضعف بين للمنطق الاستراتيجي وإهمال تحديد الأهداف وهرمية المهام وترتيب الفقرات ووضعها على جدول واحد دون مراعاة لحدة الأزمة الشاملة، وتبنى “ما يقارب 1800 مقترح ذات طابع دستوري وقانوني أغلبها تناول مبادئ ديمقراطية أساسية توجد في معظم دساتير العالم وكانت مقرة في دستور الوحدة اليمنية قبل تعديله، تشكل في مجملها دولة مركبة من خليط غير منسجم من التوجهات الإسلامية واليسارية والليبرالية، وبشرت مخرجات الحوار بدولة رفاه فردوسية وإن كانت تمثل طموحات وأحلام مشروعة يتمنى أي حاكم عادل أن يحققها لشعبه، لكن في بلد ودولة مثل اليمن توشك على الانهيار فإنها تبدو طموحات ليبرالية فائضة عن الحاجة، و لم يقل لنا مؤتمر الحوار ولا المبادرة الخليجية كيف ستوفر الموارد اللازمة والبنى التحتية لإقامة هذه الدولة الاتحادية ودولة الرفاه الاجتماعي الملتزمة بتقديم أعلى درجات الرعاية ولم تثر انتباههم القضايا الأشد إلحاحاً للمجتمع ومتطلبات حل الأزمة التي تعصف بشمال الوطن وجنوبه، التي كانت على هامش اهتماماتهم وهونت تقديراتهم من شأنها وتأثيرها على مسار الأزمة والعملية الانتقالية حتى النقاط العشرين والاحدى عشر المتعلقة بقضيتي الجنوب وصعدة بقيت حبراً على الورق، ولم ينفذ منها بندٌ واحدٌ.
لذا تساءل الكثير من اليمنيين عما إذا كان مؤتمر الحوار، الذي اكتنفه خليط أنواع وقدر من الغموض، مجرد مسرح للعبة دمى غايتها إخفاء توجهات أجنبية، والتقييم العام لمؤتمر الحوار الوطني هو أنه فشل؛ فقد كانت المهام المنوطة به أوسع وأكثر طموحا من أن يتحملها مؤتمر للحوار وبتركيبته تلك لم يكن مؤهلاً لمعالجة تعقيدات أزمة الدولة اليمنية.
تعقيداتُ أزمة الدولة اليمنية
تعزو كثير من الدراسات أزمة الدولة إلى سياسات النخبة السياسية الحاكمة وغياب حكم القانون والحريات والمواطنة المتساوية وتفشي الفساد والرشوة والمحسوبية، وغيرها من المؤاخذات كلها لا نقاش فيها، لكنها ظواهر لا تكاد تخلو منها دولة وإن بنسب متفاوتة سيما في مراحلها التأسيسية، ولم يمنعها ذلك من بناء دول قوية ومؤسسات فاعلة تمكنت في النهاية من فرض الحوكمة وتصحيح كثير من مظاهر الخلل والحد من الفساد وإرساء سيادة القانون.
عادة ما يتم تضخيم مسؤولية القبيلة وتحميلها فشل الدولة وإعاقة التقدم السياسي والاجتماعي، لكن في المقابل أليس العكس هو الأصح؟: أن ضعف الدولة هو السبب في قوة القبيلة؛ فعندما تكون هناك دولة قادرة على القيام بوظائفها السيادية يتراجع دور القبيلة وتتحول لمؤسسة اجتماعية، الأزمات المزمنة للدولة ولدت وعياً عاماً لتوزيع السلطة بين الدولة والقبيلة، تجعل الأخيرة أكثر ضماناً في وضع الأزمات وانعدام الاستقرار، حيث تؤمّن الحماية وتلبّي الحاجات وتسوّي النزاعات بين أفرادها أو مع القبائل الأخرى و تعوِّض عن غياب الإمكانات والمقدرات الحكومية.
ثم لماذا تضطر النخب السياسية (بما في ذلك النخب المدنية التي اعتمدت -حسب الدكتور فؤاد الصلاحي -خطاباً سياسياً يبشر بالمواطنة ودولة القانون والتنمية لم تسع للارتباط العصبوي ونسج مفاصل السلطة حول عصبيتها، بل كان النضال الرومانسي هو ملمحها الأساسي) للاستناد للقبيلة رغم إدراكها أنها بذلك تضعف الدولة؟ لماذا النخب السياسية تتوسل الأدوات التقليدية لإدارة البلد؟ هل الأمر مجرد رغبة أم أنهم وجدوا أنفسهم أمام قواعد لعبة هي المتاح الممكن فدخولها وزادوها قوة والدولة ضعفاً وهل لو كان لديهم فائض من الوسائط المدنية كانوا اضطروا للوسائط التقليدية؟
أزمة الدولة أو السلطة المركزية في اليمن في سياقها التاريخي محكومة بعوامل وعناصر وظروف موضوعية تقلل من خياراتنا البشرية، حيث يبدو الوضع أكثر صعوبة في السيطرة
النظام الاشتراكي في الجنوب تمكن من إزاحة القبيلة من الحكم، ولكنه فشل في بناء دولة قوية قادرة على القيام بوظائفها في الحماية والرعاية بكفاءة، وتحقيق تنمية شاملة، ولم يمنع دورات العنف المتجددة والتي أوصلت الدولة لمرحلة الإفلاس قبل الوحدة.
صحيح أن المجتمع اليمني تقليدي دخل مسار التحديث متأخراً إذا ما قورن بدول مثل مصر وبلاد الشام التي عرفت التحديث بعد حملة نابليون قبل مائتي عام، لكن مجتمعات كانت أكثر تخلفاً من اليمن ودخلت مسار التحديث متأخرة نجحت في تكوين دول مركزية قوية كحال دول الجوار اليمني، بصرف النظر عن طبيعة نظام الحكم، ولم تستطع البنية الاجتماعية التقليدية فيها الوقوف بوجه التحديث كما جرى في اليمن.
بناء الدولة في اليمن أشبه بحرب شاملة ضد الجميع، ضد الجغرافيا الطبيعية والموارد والاجتماع والقبيلة والنخب والجوار
”
”
باعتقادي أن الأمر لا يتعلق بتوفر الإرادة فعندما ننظر لأزمة الدولة أو السلطة المركزية في اليمن في سياقها التاريخي نجد أنها كانت محكومة بمزيج من العوامل والعناصر والظروف الموضوعية تقلل من خياراتنا البشرية، حيث يبدو الوضع أكثر صعوبة في السيطرة عليه، وأتفق مع ما قاله مؤلف كتاب انتقام الجغرافيا في جزئية أنه كلما ازداد انشغالنا بالأحداث الجارية أو اليومية ازدادت أهمية الأفراد وخياراتهم، لكن كلما ازداد تدبرنا لما وقع في القرون الغابرة تزداد قناعتنا أن ما يحكم الاجتماع البشري والسياسي لا يتألف حصراً من عناصر حتمية أو فردانية أو عشوائية (الصدفة) بل مزيجاً من الثلاثة ..على سبيل الماثل يشير إلى أثر الجغرافيا اليمنية في جعل اليمن دائماً مكاناً يصعب حكمه “كانت اليمن تمثل ما أطلق عليه بعض العلماء المجتمع المجزأ تعصب بها الجبال والصحاري تجعله يتأرجح بين المركزية والفوضى ويتجسد المجتمع في نظام يستنزف الحياة وبسبب الهشاشة المتأصلة فيه فشل في إقامة مؤسسات دائمة وتتسم القبائل بقوتها والحكومة المركزية بضعفها ويستنتج المؤلف من ذلك أن الصراع من أجل بناء أنظمة ليبرالية في مثل هذه الأماكن لا يمكن فصله عن هذه الحقائق([3])، بناء الدولة في اليمن هي أشبه بحرب شاملة ضد الجميع، الحرب ضد الجغرافيا الطبيعية والموارد والاجتماع والقبيلة والنخب والجوار كلها تتضافر في مواجهة الدولة ومع ذلك يبدو لي أن جذر أزمة الدولة يتمثل في شحة الموارد.
لا يمتلك اليمن فائضاً من الموارد والإمكانات تمكنه من استيعاب الأزمات المفاجئة واستعادة قدرة اقتصاده على الإقلاع
الدولة وأزمة الموارد:
يقول الباحث “تشارلز سميتر” إن مشاكل اليمن الاقتصادية حقيقية لكنها ليست ناجمة عن نقص مطلق لا يمكن ترميمه في الموارد بل هي حصيلة السياسات اليمنية التي تشكل العقبة الأداء الرئيسة أمام التغلب على الصعوبات الاقتصادية الراهنة. لكني لا أميل إلى أنها مجرد سياسات وخيارات إرادوية فحسب، صحيح لدى اليمن موارد كافية للإقلاع الاقتصادي إذا ما توفرت لليمن فترة استقرار طويل الأمد يتحقق فيها التراكم المالي وتوسع البنية الإنتاجية والخدمية دون أزمات أو حروب تساعده على مراكمة وتطوير موارده إلى الحد الذي يسمح باستيعاب وامتصاص أي أزمات أو أحداث مفاجئة تحصنه من العودة لنقطة الصفر، أو في حال توفر وضع مثالي داخلي وخارجي وقيادة رشيدة شديدة الالتزام بالإصلاح وتخلي الفاعلين المحليين والخارجيين بأعلى درجات المسؤولية عن التدخل لحين يقف اليمن على قدميه ويستطيع تشكيل مؤسسات حكم تمتع بالقوة الذاتية وتوافر مثل هذه الظروف الداخلية والخارجية أو معظمها هي من الصدف التاريخية القليلة.
لا يمتلك اليمن فائضاً من الموارد والإمكانات التي تجعله قادراً على استيعاب الأزمات المفاجئة سواء الطبيعية أو السياسية أو العسكرية والاقتصادية واستعادة قدرة الاقتصاد على الإقلاع وتاريخ اليمن هو سلسلة من الأزمات المتناسلة قديماً وحديثاً، لم يشهد فترة استقرار طويلة الأمد فمنذ قيام الجمهورية في الشمال والاستقلال في الجنوب وصولاً إلى الوحدة شهدت الدولتان حروباً أهلية وانقلابات وتدخلات أجنبية وحروب شطرية، وبعد الوحدة شهد اليمن سلسلة من الأزمات العسكرية والاقتصادية المتناسلة، لا يمتلك اليمن الموحد موارد ضخمة تساعده على امتصصها، وتأثير شحة الموارد يتجلى في أن أزمة واحدة تكفي لإضعاف قدرات الدولة وإذا تجاوزتها بصعوبة فإنه لا يصل إلى حد التعافي إلا وضربته أزمة أخرى، وهكذا فإن توالى عدة أزمات- تدمر التراكم التاريخي وتكفي للوصول بالدولة للإنهاك، ومن جهة أخرى يتجلى تأثير شحة الموارد على شدة التنافس بين أصحاب الطموحات المتنافسين فهي لا تكفي لإرضاء الكل، الفائز يجد نفسه مضطراً لاسترضاء أصحاب الطموحات والمنافسين (وهو تحد تواجهه الدولة سيما في مراحلها التأسيسية)، ويحدث في كثر من الأحيان أن يكون الاسترضاء بتفويض الزعامات المحلية بعض سلطات الدولة وبالتالي استنزاف الموارد في الصراع وفي استرضاء واستقطاب الزعامات والشخصيات المؤثرة، لا يبقى لديه فائض لبناء الدولة للقيام بوظائفها تجاه الشعب وتلبية احتياجات شعب لا يوجد توزان بين عدد وتوزيع سكانه وموارده الاقتصادية.
الأمر الآخر أن شحة الموارد تجعل التنافس بين النخب حاداً إذ لا يتوفر ما يجعل الجميع كاسباً أو تحقيق مبدأ (الكل يكسب) إنما طرف يربح كل شيء، وطرف يخسر كل شيء.
كما أن شحة الموارد تجعل أنظار النخب السياسية وأيديهم ممدودة للخارج الأمر الذي يعني تمهيد الطريق للخارج للتسلسل إلى الشأن اليمني والتأثير على القرار السيادي، أضف لذلك أن اعتماد الدولة بدرجة كبيرة على المعونات والمنح والقروض يجعل الاقتصاد متقلباً حسب التغيرات الإقليمية والدولية وعندما يكون على رأس النظام العالمي منظمة التجارة والبنك والصندوق الدوليين فلا يجب أن نتفاءل كثيراً، ويزيد الأمر سوءاً أن خبرات بناء الدولة في اليمن هي عملية غير تراكمية إنما تقوم على الهدم الثأري، كل مرحلة تمارس تصفية انتقامية من سابقتها، على سبيل المثال الدولة المتوكلية كانت قد نجحت في فرض سلطة الدولة المركزية إلى المدن والقرى والأرياف وإزاحة النخب المحلية التي تنافس الدولة، صحيح أنه كان بالاعتماد على أدوات الدولة القهرية وكانت بحاجة لأن يتبعها أو يترافق معها التغلغل من خلال التنمية (لأسباب قد نتناولها في مناسبات أخرى) لكنها كانت خطوة يجب استثمارها والبناء عليها، والنموذج الآخر هو ما حدث بعد حرب 94 حيث تم تصفية مكتسبات ما كانت تعرف بجمهورية اليمنية الديمقراطية التي تمتعت بسلطة مركزية ونظام قانوني وقضائي متطور نسبياً لتكرس عوضاً عنه هيمنة النخب المحلية وتتفشى قضايا الثأر والانفلات الأمني وغيرها من الظواهر التي كانت سائدة في شمال الوطن قبل الوحدة.
أزمة الدولة والإصلاحات المفروضة
كمعظم البلدان العربية الدولة الحديثة لم تولد الدولة الوطنية اليمنية الحديثة ولادة طبيعية ولا تطورت تطوراً تراكمياً نتيجة الحركة الداخلية على يد القوى المحلية، بل ارتبط ظهورها جزئياً بنشاط الاستعمار(جنوب اليمن) وبانتقال الأفكار التحديثية إليها من البعثات الطلابية التي احتكت بدول شهدت تطورات بفعل التحديث الاستعماري فيها سابقاً كبيروت والقاهرة ودمشق وبغداد وغيرها، انتقلت الأفكار التحديثية هذه إلى اليمن فيما لم يكن الواقع الاجتماعي الاقتصادي الثقافي التقليدي ملائماً بعد لتبنيها، وقد مثل هذا تناقضاَ، وفي طبيعة الحال لا يمكن حرق المراحل لتسريع وتيرة التحديث وفرضها دفعة واحدة على بنى اجتماعية اقتصادية متخلفة، كما هي رغبة البرجوازيات المدنية التي تصر على تجاهل هذا الاختلال في الظرف الموضوعي.
تحديث الدولة وظيفياً وعضوياً لا يمكن فصله عن تحديث المجتمع أو بالانفصال عن أولوياته وحاجاته الأساسية ومستوى تطوره فالتحديث ليس مجرد فرمان سياسي، وكثيراً ما وقعت النخب السياسية في فخ الرغبوية والتقليد والمحاكاة ، في حين يفترض أن المجتمع هو الذي يوفر مصادر الدعم الذاتية للنخبة الحاكمة وآليات إدارة الصراع اللازمة، فيما النخبة السياسية المدنية المفصولة عن المجتمع معتمدة على الإسناد الخارجي وبقاؤها مرهون باستمراره.
لا يعني هذا بحال من الأحوال أن اليمن لا يحتاج لمساعدة وعون أصدقائه سيما دول الجوار، ولا أنه في غنى عن الاستفادة عن تجارب الآخرين أو أن الغرب لا يملك تجارب رائدة، لكن التصور الذي ساد منذ التسعينات أن الديمقراطية والتعددية والسياسية والوصايا العشر للبنك الدولي والخصخصة هي قيم عالمية يجب على دول العالم امتثالها وتقدمها وصفة سحرية كاملة وجاهزة لأي دولة تريد التخلص من المتاعب وتجاوز كل التحديات وتحقيق التطور والتنمية الشاملة والدخول إلى فراديس العالم الحديث، وصفة قابلة للتطبيق في أي مجتمع وفي أي ظروف اجتماعية واقتصادية يكفي أن تمتثل لهذه القيم لتقلع نحو العالم الحديث على بساط الريح، وحتى في حال غياب قوى إصلاحية محلية قادرة على تبنى وفرض هذه الإصلاحات فان الغرب والولايات المتحدة جاهزون للتدخل بمختلف الأشكال الخشنة والناعمة “لدمقرطتنا” وإعادة هيكلتنا سياسياً واجتماعياً وثقافياً ومؤسسياً هيكلة الجيش والمؤسسات والقوانين والشعب والقيم وكأن مسألة بناء الدولة سلعة قابلة للاستيراد.
نتائج أكثر من ثلاثة عقود من التحديثات المفروضة لم تنتج سوى ديمقراطية شكلية لا تضمن تغييراً، والتحديث مجرد شكل خارجي لإرضاء مجتمع المانحين ودول المركز، حتى صارت الديمقراطية العربية ماركة خاصة بين الديمقراطيات في العالم.
أثبتت هذه التجربة كما يقول مؤلف كتاب انتقام الجغرافيا بأن موروث الجغرافيا والتاريخ والثقافة تفرض حدوداً لما يمكن تحقيقه في مكان بعينه. وأن المقدر للعالم أن تحكمه أنواع مختلفة من الأنظمة وأن الطريقة الأسلم أن يترك للشعوب فرصة التطور بقدراتها وخصائصها الذاتية وأن تصل إلى الديمقراطية بطريقتها الخاصة وفي وقتها المحدد، وأن يترك لها أن تتعلم من الغرب ما تحتاجه وما هي مستعدة له، والانفتاح على تجارب بلدان شرق آسيا الناجحة ومؤسساتها الإقليمية التي توفر تنمية أكثر عدلاً، بدلاً من فرض القيم الغربية والوصايا العشر للبنك ومنظمة التجارة على الشعوب كقيم عالمية وبعبارة أخرى نعم للتحديث ولا للتدخل.. إن أي مشروع إصلاحي جاد يجب أن يكون استجابة لمطالب المجتمع المحلي وليس استجابة لقلق الخارج (وإن كان عليه مراعاة المخاوف المشروعة للخارج)، وأن يراعي أولوياته لا أولويات المجتمع الدولي ومجتمع المانحين، وأن يكون مسنوداً بدعم الأغلبية كرافعة تساعد على وضعه موضع التنفيذ، وأن تكون له القدرة على استيعاب أكثر ما يمكن من القوى الاجتماعية حتى يستشعر الناس الحاجة والمصلحة في أي عمل إصلاحي وتجديدي.
نجاح أوروبا الشرقية في الاستقرار السياسي والاقتصادي يعود لتقبل شعوبها وحكامها لمبدأ تداول الحكم والاحتضان الاقتصادي لأوروبا الغربية ضمن الاتحاد الأوروبي، ما ساعد في ضخ رؤوس الأموال والاستثمارات واليد العاملة إضافة لدور الحلف الأطلسي في توفير الحماية الأمر الذي أتاح لها التركيز على التنمية بدلاً من الدفاع وتقليص الجيش في الحياة السياسة، كما أن قربها الجغرافي من أوروبا الغربية ساعد على الاندماج الثقافي من خلال تقديم نموذج ملهم، لقد غيرت بقوة المجتمع المدني والوعي الشعبي وبروز قيادات وأحزاب قادة الثورة وضمها من الانقسام بعكس الأجواء الهادرة للربيع العربي التي لم يجمعها إلا العداء للنظام إضافة الى غياب القيادة الثورية الملهمة. كما أتاح المجال للعسكر والأحزاب القيادية القادرة على جمع المعارضين واختراقها من التنظيمات الإرهابية والجماعات والأحزاب الأكثر تنظيماً، وافتقارها للاقتصاد القادر على مساعدتها على الإقلاع وشلل المجتمع المدني وانقسامه وتبعيته محلياً للأحزاب وخارجياً للموالين، ومن المفارقات أن الدول المستقرة والغنية في المنطقة العربية هي الملكيات الخليجية ولعبت دوراً جوهرياً في التأثير على السلبي على عمليات التحول الديمقراطي، وفي حين كانت أوروبا الغربية الديمقراطية تقدم الدعم الاقتصادي والنموذج الجاذب للدول الديمقراطية المستقرة، أما في حالتنا فالهبات والمنح الخليجية كانت تعيق التحول الديمقراطي فهي تعادي الديمقراطية أصلاً.
[1] – فرانسيس فوكوياما، “بناء الدولة”،]ترجمة مجاب الإمام[ (الرياض: العبيكان. ط 1. 2007م)، ص 66.
[2] روبرت د.كابلان “انتقام الجغرافيا”، ]ترجمة إيهاب عبد الرحيم علي[، ( الكويت، عالم المعرفة، يناير 2015م)
[3] انتقام الجغرافي، مصدر سابق ص 16 – 18