التطهيرُ الجزئي والتطهيرُ الكامل .. بقلم/ عفاف البعداني
أهلَّ علينا شهر الخير باليُمن والبركات، أطلّ علينا بهلالٍ صغير، ونجوم ساهرة، وربيع مفقود ننتظر غيثه كُـلّ صباح ولم يأتِ بعد! لكنَّ ربيعه قد أُسري إلينا بصيف ليلي متعامد على زاوية الروح مباشرة دون أية منحدرات كونية، طقس منبثق في كُـلّ مسجد وزقاق وبيت وقلب وَمؤمن، سكينة وطمأنينة وراحة لا حدود لها، انشراح واسع ممتد من شرق الأرض إلى غربها، أجور مضاعفة فمن يحمل بقلبه هم حسنة واحدة سخر الله له مئة حسنة والله يضاعف لمن يشاء، شهر يُغاث فيه الناس من أخطائهم وعوزهم المدقع إلى النجاة، يتخلصون من مساوئهم التي قد التصقت فيهم منذُ أمدٍ بعيد ليسلخوها برغبة تامة بعيدًا عن ذواتهم التي أصبحت كوكبة من التغيير والتجديد نحو ما يحبه الله وتحبه الروح.
ومعروف لدى الجميع أن شريعة الصوم فرضٌ واجب شُرع منذ بدء ظهور الإسلام؛ لتقويم البشرية وتعويدها على الصبر وَتحمل المسؤولية والشعور بالآخرين الذين قد لا يمتلكون ما يسد رمق جوعهم ولو ليوم واحد فقط! شهر يتقرب به العباد إلى ربهم؛ ليكون الدليل الأوضح لمعرفة هذا الدين على أكمل وجه وأبهى صورة، يمتنع فيه الناس عن الأكل والشرب لمدة معينة، وعن الآثام ما استطاعت به نفوسهم، حتى نفوز بتوفيق الله وحتى تأتي ليلة القدر وقد هيأت لها النفوس قياماً واحتساباً، ومجاميع كبيرة من البشر يحتفون به ويستغلون حضوره بشعائر اجتماعية مختلفة، ومشاريع تعاونية متعددة، تجمعنا كلمة السيد الساعة التاسعة والنصف 9:30م، وتفرقنا احتفاءات تعبدية أُخرى، كقراءة القرآن والتسبيح، والالتفاف نحو مجالس الذكر حتى آخر الليل وغيرها من الطاعات التي يتسم بها أهالي القرى والمدن، كُلٌّ حسب منطقته؛ ولأن داخلنا قد أصبحت خرائبه مهجورة ومتراكمة، نجد أن هناك تفاوتات كبيرة بين تجاوب النفسيات في هذا الشهر من شخصٍ لآخر كيف ذلك سنجيب؟!
هناك أنُاس: شهر رمضان بالنسبة إليهم تطهير نصفي أَو جزئي فهم طيلة السنة ترتفع أعمالهم وترتقي حسناتهم إلى مقام علوي هم بالغوه، لم يدعو أتعاب الحياة تشغلهم عن قيامهم وزهدهم ليلة واحدة، نجدهم يقرؤون ويؤدون فرائض الله وسننه بكل خشوع وَلم يتوانوا عن فعل الخير دون أي مقابل، لم تحل فيهم عقدة العطاء والمسامحة رغم ما قد رأوه طيلة فترة معرفتهم بالخلق، بل كلما ضاقت عليهم الدنيا اتسع صبرهم، كلما تراكمت عليهم ضغوطات العمل نجدهم بصورة أبهى وأطرى وأجل، يتقربون إلى الله أكثر يجدون في هذا القرب صلابة خَاصَّة في مواجهة أي شقاء، يعودون من العمل ساعة الظهيرة بوجه مرضي رغم أن جيوبهم معدمة، يقسمون أوجاعهم وأمراضهم وحاجاتهم إلى قطع صغيرة مفتتة تكاد لا تُرى، ولكن الله عليم بذات الصدور، يسامحون بكمية مضاعفة أكثر من اللازم، يضعون ألف عذر لمن أساء لهم بقبول تام، لا يقفلون أبواب قلوبهم رغم هشاشتها الواضحة، قد ترهلت أعينهم وضاق نَفسهم وما زالوا ينصتون لمن حولهم بكل دهشة وكأنهم يسمعون بهذه التجربة لأول مرة وقد خبروا تجارب الحياة كلها بصمت، ويأتي كُـلّ هذا تأدباً واحتراماً لأحوال غيرهم من الناس، يتجاوزون أشياء لا يمكننا تجاوزها حتى لحظتنا هذه فهي عالقة بذاكرتنا بكل ألم، تلزمهم حالة كبيرة من الحمد وعدم التذمر والشكوى من نوازل القدر، يهرعون إلى الله بالتضرع والتودد وقد امتلأﺕ قلوبُهم بالاكتفاء من كُـلّ شيء، هؤلاء تنطبق عليهم آية: ((وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)).
والبعض الآخر: يأتي هذا الشهر عليه كتطهير شامل وكامل فهو قد انشغل بشقاء الدنيا وعملها، وقد كان عمله عبادة يؤجر عليه لا نشكك في ذلك، قد يقضي حاجة لأسرته أَو لنفسه خُصُوصاً في ظل هذه الأوضاع الساحقة التي نعيشها باليمن، لكنه ما زال يحتاج للترويض وللتهذيب حتى يرتقيَ، حكمته وصبره ونضوجه لم تتجلَّ بعدُ، لا زالت كُـلّ تلك القيم عالقة في قعرهم الداخلي المستميت، تعتليها الكثير من الأغبرة ويلزمها معقمات إيمانية لا تُباع بالصيدليات، وكلّ هذا كان نتيجة لضغوطات الحياة، وخيبات البشر المتكرّرة، وبلاءات لم يقوَ على تحملها، مواقف وأحداث وقصص مرت عليه طيلة العام وقد جعلت منه إنساناً قاسياً وَعنتاً وغير راض عن نفسه دون إرادَة منه، يريد أن يتغير ويسمو بروحه لكنه يفتقد الطريقة المثلى للاستجابة، والإرادَة والصحة لمزاولة ذاك الشعور الصعب.
والبعض يقول: إن الصحة ليس لها دورٌ في العبادة فمن لديه نية سيعمر الأرض بليلة واحدة، وهذا غير صحيح! قد تكون في داخلك همة لعمل عظيم لكن هناك صداعاً يأتي ليصفعك دون أن تعلم ما مصدره، تخمة تحارب جسدك فلست بالشبعان ولا الجائع، حالة اضطراب يشهدها جسدك وقد تتسبب عليك بثقل الطاعة، فتجتمع فيك علة الجسد مع علة الروح فيصبح الإنسان مترهلاً من الداخل مهما قرأ وصلى وصام وتزكى، وتجاوز يجد نفسه في نفس المكان، ونفس الشعور، وإن تغير فلمدة وجيزة لا تكاد تذكر، كثيرة هي الأسباب التي تجعلك مهدود القلب والروح ومسلوب الراحة، في هذا الشهر الفضيل.
كمية كبيرة من الذنوب تتخبطك وأنت مدرك تماماً للطريق الصحيح لكنها تفعل ما بوسعها؛ كي تحول بينك وبين رضا الله، تريد أن تجعلك أسيراً لها طيلة عمرك؛ لذا من الطبيعي أن تشعر بالتعب في هذا الشهر الكريم، من الطبيعي أن تفتقد للخشوع عند تلاوة أول آية للقرآن الكريم، هي مسألة تحمل وصبر وثبات ووقت وستزول منك، ستصبح خفيفة عليك أكثر مما تتوقع، فقط الزم ما استطعت من العبادات واصنع في نفسك همة التنافس والتغيير، لكي تتبخر العقد العالقة في جسدك المتعب.. تتبخر بحرارة ناتجة عن احتراق كمية كبيرة من آثام المرء، تشعر بتثاؤب وثقل وتتفاجأ بكمية دخان متصاعدة من داخلك بشدة، لا تعلم مصدرها لكنه خلاصة لذنوب كثيرة قد أرهقتها المقاومة واحترقت وتبخرت؛ ليصبح الجسد خفيفًا من ثقل مساوئه بالتدريج، وكم ستحتفل الروح بهذا الإنجاز العظيم الذي قد لا نصله اليوم ولا غدًا، ولا بعد غد، ولكن متى ما شاء لنا الله ذلك؟!