لماذا الإِمَـامُ عَلِـيٌّ؟
عبدالملك العجري
رمزيةُ الإِمَـام عَلِـيٍّ ليس في كونه قريبَ النبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- فحسب، والتشيُّعُ له ليس ولاءً عشائريًّا، رمزيةُ الإِمَـام عَلِـيٍّ التي جعلته نموذجًا ملهمًا للحاكم النموذجي، أنه جاء في مرحلةٍ حرجة من تاريخ المسلمين مرحلة انقسام وتحول، تحول عن قيم مجتمع الأخوة والعدالة الذي أرساه النبي إلى مجتمع الصفوة والنخبة القرشية المستأثرة بالمال والثروة، ونظرية السواد بستان قريش وتنامي المظاهر الكسروية على الولاة فجاءت حركة علي للتصحيح كنموذج للحاكم المنحاز لمصالح المستضعفين وَالمجتمع العادل مجتمع الأخوَّة القائم على العدال في الحكم وتوزيع المال وقيم الجدارة والفضيلة والحكم الرشيد التي لخصها الإمام في عهده لمالك الأشتر، والتشيع للإمام على هو انتماء لهذه القيم قيم العدالة في توزيع المال ضد نظرية السواد بستان قريش والتوزيع العشائري للأراضي المفتوحة.
على عهد الخليفة عمر بن الخطاب مع توسع الدولة الإسلامية وتدفق الأموال من الأراضي المفتوحة في الشام والعراق ومصر اكتنزت خزينة بيت المال بالذهب والفضة ونفائس خزائن كسرى وبلاد فارس ومصر وغيرها من البلدان المفتوحة لحد أن الخليفة احتار كيف ينفق هذه الأموال الضخمة التي لم يعتد عليها المسلمون أو كما قال عمر -رضي الله عنه-: قد جاء للناس مال لم يأتِهم مثلُه منذ كان الإسلام أشيروا عليَّ بمن أبدأ؟ وبعد أخذ ورد توصل الخليفة إلى سياسة مالية ذات طابع عشائري تقوم على العصبوية تبدأُ بقرابة الرسول يليهم قريش ثم الأنصار ثم سائر العرب ثم العجم.. وعلى حَــدِّ رواية الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل، قال: قدمت على عمر رضي الله عنه ثمانمِئة ألف درهم، فلما أصبح أرسل إلى نفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال لهم: قد جاء للناس مالٌ لم يأتِهم مثلُه منذ كان الإسلام أشيروا عليَّ بمن أبدأ؟ قالوا: بك يا أميرَ المؤمنين إنك ولي ذلك قال: لا ولكن ابدأوا بأهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأقرب فالأقرب فوضع الديوان على ذلك ويجعل لكل طائفة عريفاً يقوم بأمرهم ويجمعهم وقت العطاء ووقت الغزو.. فيبدأ ببني هاشم؛ لأَنَّهم أقارب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قريش ثم يقدم الأنصار على سائر العرب لسابقتهم وآثارهم الجميلة ثم سائر العرب ثم العجم وإن استوى اثنان في الدرجة قدم أسنهما ثم أقدمهما هجرة وسابقة… كانت هذه السياسة أَسَاس للتفاوت في الثراء، ويقول الجابري: إن ترتيب الناس في العطاء حسب القرابة من الرسول والسابقة في الإسلام كان لا بد أن يؤديَ إلى تكديس الثروة في أيدي مجموعة معينة، وبالتالي كان لا بد أن يُورث فوارق كبيرة بين المسلمين في الثروة، وظهرت ثروات ضخمة للعديد من الصحابة، وتضخّمت ثروات مَن كانوا أغنياء بشكل كبير جِـدًّا، وأن بقيت تأثيراتها محدودة نتيجة لحزم عمر، لكنها تطورت بشكل كبير على عهد عثمان فحصلت انتكاسة لمجتمع الأخوة ساعدت الارستقراطية القرشية المتشكلة من القوى التي اعتنقت الإسلام قسراً من استعادة نفوذها والتغلب على قوى مجتمع الأخوة وإعادة تشكيل المجتمع الإسلامي وزعزعة أسس شرعية الخلافة.
استطاع بعض أقارب عثمان وعلى رأسهم مروان بن الحكم استغلال قرابتهم من الخليفة للتحكم بقراراته والإثراء غير المشروع وحسب بعض المصادر التاريخية (إن عثمان أعطاه خُمس غنائم أفريقية، وقد بلغت خمس مِئة ألف دينار) الامتيَازات والهبات التي كان يمنحها الخليفة من بيت المال دفعت عبدالله بن مسعود خازن بيت المال إلى الاستقالة العلنية أمام الناس مندّداً بالخليفة وأقاربه قائلاً: (أيها الناس، زعم عثمان أني خازن له ولأهل بيته، وإنما كنت خازناً للمسلمين، وهذه مفاتيح بيت مالكم)، كما كان أبو ذر الغفاري من أوائل الأصوات التي جهرت بمعارضة السياسة المالية للدولة على عهده وطالب بإعادة توزيع المال العام بشكل عادل وحذر من مخاطر الثراء غير المشروع وتكون طبقة تحتكر ثروة الأُمَّــة وهي لا زالت في بداية تشكلها.
كانت الأرضي المفتوحة هي مصدر هذا التضخم في الثروات وحجر الزاوية هذا التضخّم في صياغة التشكيلة الاجتماعية الجديدة نتيجة توسع جغرافية الدولة الإسلامية واقتطاع أراضٍ واسعة ضمن نفوذها ضمت مجتمعات فيضيه يغلب عليها النظام الاقطاعي، احتكرت الدولة الأراضي الزراعية للأقاليم المفتوحة عنوة واعتبرتها ملكاً للدولة وتركتها في يد أصحابها، مقابل ضريبة معينة تسمى الخراج، يفترض أن عائداته تعود لمجموع الأُمَّــة وتوزع بينهم بطريقة عادلة، إلَّا أن السياسة المالية وَالاختلال في توزيعها وَتوزيع عائدات الأراضي الخراجية أَدَّى إلى نشوء طبقة اجتماعية ثرية تمكّنت من تعزيز نفوذها واحتكار عوائد أراضي الخراج وتوزيعها على شكل هبات اقطاعية أَو كما عبر سعيد بن العاص “انما السواد بستان قريش”، فرد عليه الأشتر: أتجعل مراكز رماحنا وَمَا أفاء اللَّه عَلَيْنَا بستانًا لَك ولقومك؟ والله لو رامه أحد لقرع قرعاً يتصأصأ منه..
وعندما جاء الإِمَـام عَلِـيٌّ حاول تصحيحَ هذا الوضع والانتصار لقيم العقيدة على قيم العشيرة ومجتمع الأخوة على مجتمع الصفوة، جاء الأشعث بن قيس إليه وهو على المنبر، فجعل يتخطى رقاب الناس حتى قرب منه ثم قال: يا أمير المؤمنين، غلبتنا هذه الحمراء على قربك -يعني العجم أَو الموالي- فركض المنبر برجله، حتى قال صعصعة بن صوحان: ما لنا وللأشعث! ليقولن أمير المؤمنين -عليه السلام- اليوم في العرب قولاً لا يزال يذكر، فقال عليه السلام: من يعذرني من هؤلاء.. أفتأمرونني أن أطردهم؟!، ما كنت لأطردهم فأكون من الجاهلين! أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ليضربنكم على الدين عوداً كما ضربتموهم عليه بدءاً، إضافة لاتِّخاذ سياسة مالية أكثر عدالة أثارت عليه أصحاب المصالح وقد خفت إليه جموع منهم تطالبه بالعدول عن سياسته فأجابهم الإمام: (لو كان المال لي لَسوّيتُ بينهم فكيف، وإنما المال مال الله، ألا وإن إعطاءَ المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا، ويضعُه في الآخرة، ويُكرّمُه في الناس، ويهينه عند الله).