“الهُدنة” في أيامها الأخيرة: لا تمديدَ للنسخة الحالية ولا مؤشرات على اتّفاق جديد
المسيرة | خاص
تتزايَدُ المؤشراتُ على وصولِ مسارِ الهُدنة العسكرية والإنسانية إلى نهايةٍ مسدودة، إذ أثبتت معطياتُ فترة التمديد التي وافقت عليها صنعاءُ كفرصةِ لإنقاذ الاتّفاق، أن تحالفَ العدوان يركِّزُ على كسب الوقت؛ لترتيبِ صفوف معسكره المتفكك، ولجَرِّ صنعاء إلى مربع المساومة على الاستحقاقات الإنسانية المشروعة للشعب اليمني، الأمرُ الذي لا نتيجةَ له إلا استئناف المواجهة، وهو ما تؤكّـد صنعاء أن تداعياته ستكون هذه المرة أوسعَ نطاقًا وأشدَّ تأثيرًا من أية مرحلة سابقة.
الالتفافُ على استحقاقات السلام يهدّدُ باستئناف المعركة
في تعليق جديد حول وضع الهُدنة، قال عضو الوفد الوطني المفاوض عبد الملك العجري: إن “محاولة اختزال السلام واستحقاقات الملف الإنساني في تمديد الهُدنة بشكلها الحالي محاولةٌ بائسة سترتد على أصحابها خيبة ووبالًا”.
يأتي هذا أَيْـضاً في سياق الرد على تصريح الرئيس الأمريكي جو بايدن مؤخّراً حول “الموافقة على تمديد الهُدنة” وهو التصريح الذي استهجنه المجلس السياسي الأعلى سابقًا؛ لأَنَّه يضلل الرأي العام ويتجاهل حقيقةَ تعنت تحالف العدوان ورفضه تنفيذ التزامات الاتّفاق.
ووفقاً لذلك، فَـإنَّ الهُدنة لم تعد في نظر السعوديّة والولايات المتحدة الأمريكية أكثرَ من “غطاء” دعائي للتهرب من تداعيات استمرار العدوان والحصار، وكسب الوقتِ لخلط الأوراق، وليس من الغريب أن تعلن الرياض وواشنطن موافقتهما على “تمديد” هذا الوضع.
تصريحُ العجري يشيرُ بوضوح إلى أن صنعاء لن تسمحَ بذلك، وأن العدوَّ سيجدُ نفسَه قريباً أمام خيارات محدودة: إما الاقتراب من متطلبات السلام الحقيقي وعلى رأسها وقف العدوان والحصار، وهذا سيتضمنُ على الأقل دفع المرتبات ورفع كافة القيود عن مطار صنعاء وميناء الحديدة، أَو عودة المواجهة بكل ما تتضمّنه من سيناريوهات واحتمالات رد وردع.
وفي هذا السياق فَـإنَّ تداعياتِ خيار استمرار العدوان والحصار وعودة المواجهة، بحسب عضو الوفد الوطني “لن تقتصر على اليمن وسيكون ضررُها أعمَّ وأشمل”، الأمر الذي يعني أن انسدادَ أفق الهُدنة كخطوة نحو السلام الفعلي، سيفتح مرحلة جديدة لن يكون بإمْكَان دول العدوان تجنب تأثيراتها بأية “حيلة” أُخرى.
وكان رئيسُ الوفد الوطني، ناطق أنصار الله، محمد عبد السلام، قد حذر قبل أَيَّـام من أن عدم تحقيق السلام والاستقرار في اليمن، سيضر بأمن واستقرار المنطقة كلها.
ويوضح العجري أن صنعاء “لا زالت تعملُ على تفادي هذا الخيار”، في إشارة إلى أن الفرصة لا زالت متاحة أمام تحالف العدوان ورعاته، للتوقف عن التعنت وتدارك ما تبقى من أَيَّـام التمديد للوصول إلى اتّفاق إنساني أوسع وأشمل بدون ابتزاز ومساومة على الحقوق.
لكن حتى الآن، لا زالت الاحتمالات الإيجابية محصورةً على طريقة تعاطي صنعاء فقط؛ لأَنَّ سلوك تحالف العدوان ورعاته ومرتزِقته منذ إعلان الهُدنة مطلع أبريل إلى الآن، لم يتضمن أي مؤشر -ولو بسيطاً- على وجود أية رغبة لتحقيق تقدم حقيقي في أي ملف، بل إن المؤشرات السلبية تزايدت بشكل مُستمرّ إلى حَــدِّ أن إصرارَه على استخدام الملف الإنساني كورقة تفاوض وابتزاز بات حقيقةً جليةً تجعلُ احتمالاتِ نجاح الهُدنة ضئيلة وبعيدة للغاية.
رحلةٌ جوية واحدة فقط تم تسييرُها بين صنعاء والقاهرة منذ الإعلان عن الهُدنة، ومع ذلك فقد وجدها تحالفُ العدوان كافيةً للتفاخر بها كخطوة إيجابية ولتبادل عبارات الشكر بين قادة الولايات المتحدة والسعوديّة ومصر بخصوصها، وهذا نموذج مصغَّرٌ من سلوك شديد السلبية، ليس من المرجَّح أن يتحولَ بين ليلة وضحاها إلى سلوك إيجابي حقيقي يمكن أن يؤديَ إلى سلام فعلي، وبالتالي فحتى احتمالاتُ موافقة تحالف العدوان على توسيع شروط الهُدنة خلال الفترة القادمة ليست احتمالات إيجابية بالكامل؛ لأَنَّ نفسَ التعنت قد يتكرّر في ظل التواطؤ الكامل من قبل الأمم المتحدة.
ولذا فَـإنَّ الحلَّ الحقيقي الذي يمكنُه أن يمنعَ انسدادَ أفق الهُدنة وعودة المواجهة هو الانتقال إلى اتّفاق ملزم ومضمون وسريع المفعول، إلى جانب كونه واسعَ النطاق في بنوده الإنسانية والاقتصادية، بحيث لا يتيح مجالا للتلاعب ببنوده كما هو الحال مع الاتّفاق الحالي، وهذا ما كان نائب وزير الخارجية بحكومة الإنقاذ حسين العزي قد أشار إليه في وقت سابق.
بعبارة أُخرى: إن أيَّ تمديد قادم للهُدنة لن يكون مرهوناً بزيادة عدد الرحلات الجوية أَو سفن الوقود فقط، بل برفع قيود الحصار، بما في ذلك وقف احتجاز السفن ووقف عرقلة الرحلات المتفق عليها، وهذا طبعًا إلى جانب المعالجات الاقتصادية والإنسانية الشاملة التي تتضمن دفع المرتبات وتوحيد الإيرادات وتبادل الأسرى، وهي معالجات قد يلجأ تحالف العدوان إلى استخدامها أَيْـضاً كأوراق ابتزاز وتحويلها إلى قضايا جدلية لتضييع الوقت، لكن مؤشرات الموقف الوطني تؤكّـد على أنه لم يعد هناك مجال لذلك.
المبعوثُ الأممي يضلل العالم
من المؤشرات السلبية البارزة التي تؤكّـد على أن الهُدنة تسيرُ في الاتّجاه الخاطئ، سلوكُ الأمم المتحدة ومبعوثها الخاص هانس غروندبرغ، الذي يزداد تواطؤا مع تحالف العدوان بشكل فاضح مع مرور الوقت.
في إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن، عمد غروندبرغ بشكل فَجٍّ إلى تقديم معلومات مزيَّفة ومغلوطة حول تعاطي الأطراف مع الهُدنة، إذ تجاهل تماماً استمرار عمليات احتجاز سفن الوقود ومنعها من الوصول إلى ميناء الحديدة من قبل دول العدوان ورعاتها، وحاول التغطية على ذلك بحديث إنشائي عن “فوائد” دخول عدد محدود من سفن الوقود (بعد احتجازها لفترات)، بل ووصل به الأمر إلى امتداحِ “سلاسة تدفق الوقود” ونسب الفضل إلى آلية التفتيش الأممية التي يقوم تحالف العدوان بتجاهل تصاريحها الممنوحة للسفن وتحديها بشكل واضح.
في المقابل، تعمد المبعوثُ اتّهامَ صنعاء مباشرةً بعرقلة ملف فتح الطرق في تعز والمحافظات الأُخرى، متجاهلاً المطامع العسكرية التي يريدُ تحالفُ العدوان تحقيقَها بالابتزاز في هذا الملف، ورفضه الفاضح لمبادرات صنعاء لفتح عدة طرق كمرحلة أولى في تعز وعدة محافظات.
هذه الصورة التي يقدمُها المبعوث الأممي لمجلس الأمن تجعلُ الحديثَ عن إمْكَانية إنقاذ الهُدنة وتوسيع مزاياها مُجَـرّد نظرية صعبة التطبيق؛ لأَنَّ سلوكَ الأمم المتحدة بجانبِ سلوك تحالف العدوان يرسمان كماشةً واضحةَ الملامح يراد إيقاع صنعاء بين فكَّيها لتقييد خياراتها العسكرية وجرِّها إلى دوامة من المناقشات العبثية والمسارات المسدودة في الوقت الذي يستمر فيه الحصار والعمليات العدائية وترتيب الصفوف داخل معسكر العدوان.
بالمحصلة، فَـإنَّ موقفَ صنعاء الإيجابي وحرصَها المثبت عمليًّا على إنجاحِ الهُدنة والانتقال بها إلى مرحلة جديدة تخفف معاناة الشعب اليمني، لا يبدو كافياً لتحقيق التقدم المرجو، إذ يبدو أن تحالفَ العدوان والأمم المتحدة يعتمدون بشكل رئيسي على هذا الموقف لاستغلاله؛ مِن أجلِ إطالةِ أَمَدِ حالة العدوان والحصار، والالتفاف على الاستحقاقات المشروعة لليمنيين.
ومن هنا فَـإنَّ تحذيراتِ صنعاء التي تزايدت مؤخّراً بخصوص عواقب استمرار التعنت، قد تكون فرصةً أخيرةً أمام تحالف العدوان ورعاته.