أفُق “تجديد” الهُدنة يضيقُ بين سلبية الأمم المتحدة وتعنت العدو
المسيرة | خاص
في مؤشِّرٍ إضافيٍّ على نوايا الاستمرارِ بالمراوغةِ من جانبِ تحالفِ العدوانِ الأمريكي السعوديّ ورُعاتِه، عاد المبعوثُ الأمميُّ إلى الحديث عن تمديد الهُدنة مرة أُخرى، زاعماً أنها حقّقت “تحولاً كبيراً” لمصلحة اليمنيين، متجاهلاً بشكل تام تعنت دول العدوان الذي جعل اتّفاقَ الهُدنة بلا قيمة تذكر، الأمر الذي يكشفُ عن دعم أممي صريحٍ لمواصلة استخدام دول العدوان للمِلف الإنساني كورقة تفاوض وابتزاز، وهو ما يمثل عائقاً أَسَاسياً يحولُ دون إمْكَانية التمديد أَو الوصول إلى خطوات أوسع.
تقييمٌ أممي مغلوطٌ لنتائج المرحلة السابقة
غروندبرغ قال الخميس: إن “تمديد الهُدنة سيعود بالمزيد من الفوائد على الشعب اليمني” وذلك ضمن بيان انطوى على مغالطات فجة، فالفوائد المزعومة خلال الفترة الماضية كانت ضئيلةً للغاية إلى حَــدِّ أنها لم تشكل “فرقاً كبيراً” كما ادّعى المبعوث الذي لجأ إلى فبركة الإحصائيات ليدعم كلامه، حَيثُ زعم أن 26 سفينةَ وقود من أصل 36 سفينة وصلت إلى ميناء الحديدة، لكن المدير التنفيذي لشركة النفط عمار الأضرعي قال للمسيرة لاحقاً: إن أربعاً وعشرين سفينة فقط هي إجمالي ما تم دخوله عبر ميناء الحديدة وفق الخط الزمني للهُدنة (لاحقاً وفي اليوم نفسه قام تحالف العدوان باحتجاز سفينة ديزل أُخرى).
ولم يكتف غروندبرغ باللعب بالأرقام، إذ عمد أَيْـضاً إلى محاولة “تجميل” عمليات قرصنة سفن الوقود من قبل تحالف العدوان، واصفا إياها بأنها مُجَـرّد “إجراءات”، في مسعًى لمنحها “شرعيةً” حتى وإن كان ذلك على حساب عمل آلية التفتيش الأممية التي تدوس قوى العدوان على تصاريحها الممنوحة للسفن!
المبعوث تعمد أَيْـضاً تجاهل عرقلة دول العدوان للرحلات الجوية المتفق عليها وخُصُوصاً بين صنعاء والقاهرة (لم يتم تسيير سوى رحلة واحدة فقط منذ الإعلان عن الهُدنة)، وكأن ذلك أمر طبيعي، وبدلاً عن ذلك حاول إبرازَ الرحلات المحدودة التي تم تسييرُها (بصورة متأخرة وبعبث في المواعيد) بين صنعاء وعمّان كإنجاز كبير، مع أنها لا ترقى إلى استحقاقات الاتّفاق الواضحة.
وإضافةً إلى ذلك كرّر غروندبرغ اتّهامَه لصنعاء برفض فتح الطرق في تعز، متجاهِلاً الفرق بين الطبيعة الإنسانية لهذا الملف، والطبيعة العسكرية لمطالب الطرف الآخر فيه، الأمر الذي يفصح عن إصرار واضح على ابتزاز صنعاء لتحقيق مكاسب مشبوهة تحت غطاء التهدئة.
تعهُّداتٌ دعائيةٌ جديدةٌ تكرِّسُ الابتزازَ بالمِلف الإنساني
الروايةُ المغلوطةُ التي قدّمها المبعوث الأممي عن الهُدنة تقضي على أي أمل بإصلاح أخطاء المرحلة السابقة لإنقاذ التهدئة، فالرجل يؤكّـد بوضوح أن الأمم المتحدة متمسكة بالتعاطي مع الأمر من الزاوية التي تحقّق مصالح تحالف العدوان وتنسجم مع تصوراته فقط، وهو ما يعني أن هذا السلوك سيستمر في أية مرحلة قادمة.
بالتالي فَإنَّ وعود غروندبرغ بـ”مناقشة مِلف الإيرادات والرواتب وربط مطار صنعاء بالمزيد من الوجهات” في حال تمديد الهُدنة، لا قيمة لها، بل إنها تتجه مباشرة إلى قائمة “الأكاذيب” بالنظر إلى أن الرجل كان قد قدم نفس هذه الوعود عندما طلب من صنعاء الموافقةَ على تمديد الهُدنة نهاية مايو المنصرم.
والحقيقةُ أن حديثَ المبعوث الأممي عن إمْكَانية “مناقشة” الإيرادات والرواتب لا يمثل تقدمًا حقيقيًّا “يُغرِي” بالموافقة على التمديد مرة أُخرى؛ لأَنَّ تحالفَ العدوان اعتمد خلال الفترة الماضية وبشكل رئيسي على تحويل الالتزامات إلى “مناقشات” لتضييع الوقت واختلاق ثغرات تفسيرية لتمرير مكاسب عسكرية وسياسية لا علاقة بما تم الاتّفاق عليه.
وإذا كانت صنعاءُ قد أعلنت أكثرَ من مرة عن خطوات عملية واضحة لبدء عملية توحيد الإيرادات وصرف المرتبات فَإنَّ حديثَ غروندبرغ عن مُجَـرّد “مناقشة” الملف، يمثل رداً سلبياً يكشف بوضوح عن محاولة لتخفيض سقف الجدية وفتح المجال للمراوغة، كما يعتبر اعترافًا واضحًا باستخدام المرتبات كورقة تفاوض وابتزاز، وهو ما يمثل رسالة لا تشجع على التمديد.
والأمرُ نفسُه بالنسبة لحديث غروندبرغ عن “ربط مطار صنعاء بالمزيد من الوجهات” فهذا الوعد لا يمكن أخذُه على محمل الجد بالنظر إلى أن تحالف ومنذ مطلع أبريل الماضي يرفض السماح بتسيير أية رحلة بين صنعاء والقاهرة (باستثناء رحلة واحدة يتيمة) برغم من أنها مشمولة بنص الاتّفاق، ولم تفعل الأمم المتحدة أي شيء خلال أربعة أشهر لمعالجة هذا الأمر.
وإن كان المبعوث يقصد أنه سيتمكّن (فجأة) من حَـلّ هذه المشكلة إذَا وافقت صنعاء على تمديد الهُدنة مرة أُخرى، فَإنَّ المسألة مسألة مساومة واضحة ومحاولة لشراء المزيد من الوقت مقابل تعهدات لا ضامن لها.
يشار إلى أن غروندبرغ كان قد تعهد قبل التمديد الأخير بالعمل على معالجة العراقيل أمام الرحلات الجوية، لكن بمُجَـرّد أن وافقت صنعاء على التمديد، عاد تحالف العدوان إلى منع الرحلات بين صنعاء والأردن والتي لم يوافق على بدء تسييرها إلا قبل نهاية المرحلة الأولى بأسبوعين.
تجديدُ الهُدنة مرهونٌ بتغييرات واسعة: الرواتب أبرز الملفات
هكذا، فَإنَّ تصريحاتِ غروندبرغ المراوِغةَ ونتائجَ الفترة الماضية من عُمر الهُدنة لا تشجّعُ على الانتقال إلى أية مرحلة جديدة، ما يعني أن التمديد مرهون بحدوثِ تغييرٍ حقيقي يرقى إلى الغاية من موافقة صنعاء على التهدئة وهي تخفيفُ معاناة المواطنين.
ولعل أبرز تغيير يمكن أن يفضيَ إلى تجديدِ الهُدنة هو وضعُ معالجة حقيقية لمِلف المرتبات، وليس مُجَـرّد وضعه على طاولة “النقاش”، وهذا يعني تطبيقَ آلية توحيد الإيرادات من خلال تجميع عائدات ميناء الحديدة وعائدات النفط والغاز والموانئ الواقعة تحت سيطرة العدوّ، وتخصيصها لصرف مرتبات موظفي الدولة.
صنعاء كانت قد أكّـدت على أولويةِ هذا المِلف لاستمرار الهُدنة عندما وافقت على التمديد الأخير مطلع يونيو، لكن تحالف العدوان لم يُبْدِ أيَّ اهتمام أَو جدية لمُجَـرّد الاقتراب من هذا الملف، بل حاول تضليلَ الرأي العام إعلامياً وتحميل صنعاء مسؤولية انقطاع المرتبات.
ومن واقع تصريحات غروندبرغ الأخيرة يبدو بوضوح أن تحالفَ العدوان يحاولُ أن يستغلَّ المرتبات كورقة ضغط ومساومة لأطول فترة ممكنة، من خلال تجاهُلِها ثم تمريرها عبر “مناقشات” بلا أفق.
ومن التغييرات التي يمكن أن تفضيَ إلى تمديد للهُدنة رفعُ القيود بشكل أكبر عن ميناء الحديدة ومطار صنعاء، بما يضمن توقُّفَ احتجاز السفن وعرقلة الرحلات، لكن كُـلَّ المعطيات تشير إلى سقف تجاوب تحالف العدوان مع هذا المطلب قد يصل إلى “الإعلان عنه” لكن ليس تنفيذه بالشكل المطلوب.
وبالمحصلة، فَإنَّ تمديدَ الهُدنة أَو تجديدها مرهونٌ بشكل أَسَاسي بتقييم صنعاء لوجود فرصةٍ حقيقية لحدوث تقدم فعلي وواسع في المِلف الإنساني، وهو ما يعني أنه لا تصريحات أَو تعهدات دعائية مسبقة ستؤثرُ على موقف المجلس السياسي الأعلى إذَا كان التقييمُ سلبياً.