كربلاءُ.. الثورةُ والشهيد..بقلم/ فارس السخي
جاء الحسين حاملاً الثورة التي فجرها جده محمد بن عبد الله، وواصلها أبوه علي بن أبي طالب وأخوه الحسن، ولكن لم يكن لديه جيشاً ولا سلاحاً ولا ذهباً، وبالتالي لم يكن لديه أية قوة عسكرية أَو تنظيم. كانت المرحلة حساسة وتتطلب رجلاً تاريخيًّا يؤدي ذلك الدور القيادي، ويكون حارساً ومسؤولاً عن هذه الثورة الكبرى التي أطلقها محمد بن عبد الله، بعد أن قُوضت دعائمها تحت ضربات بني أمية وأعوانهم.
ترك الحسين مدينتَه، وخرج من بيته نافضاً يديه من الحياة، مختاراً الموت، حَيثُ كان لا يملك في مواجهة عدوه سوى هذا السلاح العظيم، وهو الموت، وبهذا السلاح واجه العدوّ وفضحه وأسقط أقنعته، وإن لم يكن في مقدوره قهر عدوه وهزيمته في ساحة القتال، ففي مقدوره، بالتضحية، أن يفضحه، فهو كإنسان أعزل وحيد ومدرك لمسؤوليته، لم يكن يملك سوى ذلك السلاح، تلك الموتة الحمراء، فحريته تضعه في موقع المسؤولية لمقاومة كُـلّ أنواع الاضطهاد والإذلال والخنوع، ولما لم يكن لديه من سلاح سوى وجوده، فقد حمله على راحتيه وبرز به إلى مقتله.
لقد كان الإيمَـان الذي يتعرض للانهيار ومصير الناس الذين وقعوا أسرى ظلم واضطهاد كما كان يحصل في الجاهلية، وأُولئك الذين يطمحون إلى الحرية والعدل، هؤلاء كلهم كانوا ينظرون ماذا سيصنعه البطل! أما هذا البطل الذي كان وحيداً أعزلاً بلا سلاح، فقد ظهر ببطولة نادرة حين جاء بكيانه ووجوده وحياته، وجاء بأهل بيته وأعز الناس على قلبه، ليشهد ويشهدهم أنه أَدَّى ما عليه في عصر كان الحق فيه كما الحسين بلا سلاح ولا دفاع، صارخاً في وجه التاريخ: “اشهدوا فَإنَّي لا أقدر على أكثر مما فعلت”.
وعلى هذا تلقى دم طفله الذبيح بيده فرفعه إلى السماء قائلاً: “انظُرْ واشهدْ وتقبَّلْ هذا القربان”.
وفي عصر كهذا فَإنَّ موت رجل يكون ضماناً لحياة أُمَّـة وأَسَاساً لبقاء عقيدة، وتكون شهادته إثباتاً لجريمة كبرى، وهتكاً لأقنعة الخداع والزيف، ولأقنعة الظلم والقسوة الحاكمة، وإدانة لسحق القيم ومحوها من الأذهان، بل إنه احتجاج أحمر على التحكم الأسود، وصرخة غضب في صمت قطع الحناجر.
إن الشهادة هي الأمر الذي يتغلغل في أعماق التاريخ لتكون قُدوة لمن يأتي ويريد أن يكون، وهي إدانة للعصور المظلمة التي تمضي بصمت في أطلال مقبرة سوداء صامتة، فعلى أطلال الأزمان، يفيق بقايا إنسان، ليروي ما تبقى من حكايته، بلفظ آخر الأنفاس.
ولقد كان الحسين يعي أهميّة هذه الرسالة التي وضعها مصير الإنسان على عاتقه، لذلك بادر بالخروج من مكة إلى مصرعه، وهو يعلم أن التاريخ ينتظره وينظر إليه، وأن ذاك الزمن الذي يعود إلى الوراء على أيدي المفسدين، كان يتطلع إليه ليتقدم إلى الأمام، وأن الناس المستسلمون للأسر بلا مقاومة، كانوا في حاجة ماسة إلى نهوضه وصرخته، وأن رسالة الله التي وقعت في أيدي الشياطين من جديد، تريد منه أن يشهد على هذه الجريمة بموته، وذلك ما قصده حين قال: “شاء الله أن يراني قتيلاً”.
لذا فالشهادة عمل مفاجئ يحدث تحولاً ربانياً في الجانب الحقير والمنحط من الإنسان، إثر عملية توهج واحتراق في نار العشق والإيمَـان، ليصبح ذلك الإنسان طاقة نورانية إلهية محضة، فمن هنا كان الشهيد لا يغسل ولا يكفن ولا يحاسب يوم القيامة؛ لأَنَّ ذنوبه كانت قبل الشهادة، وهو ضحى بنفسه قبل أن يموت وحضر الآن.
فالشهادة تعني الحضور، والإبصار، والإخبار، والشهود، والصدق، والأمانة، والوعي للشخص الذي تتطلع إليه العيون. وهي تعني أخيرًا “القُدوة والنموذج”. فالشهادة في قاموسنا ليست حادثاً دامياً منغصاً، وفي معارفنا ليست موتاً يفرضه العدوّ على المجاهد، بل إنها اختيارٍ واعٍ يقدم عليه المجاهد بكل طواعيةٍ ووعيٍ وإدراك، ويختاره بدافعٍ ذاتي. ثم أن الشهادة تختلف في نظرنا كمسلمين عما هي عليه في تاريخ الأمم من أنها مصير محتوم بالموت للبطل تراجيدياً، فهي ليست وسيلة بل مقصد، إنها أصالة وتكامل وسمو، إنها مسؤولية كبرى وصعود من أقصر الطرق إلى معارج الإنسانية، إنها ذروة سنام العطاء والكمال الإنساني، ودعوة لكل الأجيال في كُـلّ العصور لانتزاع الحياة قبل فقدانها.
فلقد تعلمنا من الحسين كيف نحيا إن أردنا البقاء، وكيف نموت إن لم نقدر على الحياة، وذلك بتوثيق شهادته في محكمة التاريخ، وهي شهادة عُمدت بالدم لا بالكلمة، لقد شهد بأن نظاماً واحداً يحكم تاريخ البشرية ويتحكم به، نظام سخر السياسة والاقتصاد والدين والفن والفكر والفلسفة والأخلاق والذوق والبشرية، ليصنع من ذلك كله قواعد لدولة الظلم والجور والجريمة، مضحياً بالإنسان على مذبح مطامعه، متحكماً بهذا الإنسان وقيمه، يحكم التاريخ بالقسر، جلاد راحت ضحيته آمال الأجيال، وانطفأت في ظله أماني الأمم، وتلونت تحت سياطه جنوب النساء، ونكست لجوره هامات الرجال، فمن أجل أن يرضي رغباته ويعمر حياته، أباد وأجاع واستعبد رجالاً ونساءً، وشيوخاً وأطفالاً، متجرداً من كُـلّ قيمة وعرف بشري.
نظام أسود كهذا النظام كان يجب أن ينهار، ولا بد له أن ينهار، ولهذا أتينا وأكملنا المسير على الخط الرسالي الجهادي، فإنا نحن وعد الله، وإنا وعد الآخرة.