الجمهورية الإسلامية ما بعد “النووي”.. حليفةُ “الفقراء” أم “الأغنياء”؟
المسيرة | وكالات
توحي مؤشراتٌ ومعطياتٌ وازنةٌ في كُـلٍّ من طهران وواشنطن بأن التوقيع على صفقة إعادة إحياء الاتّفاق النووي الموقع عام 2015م، بات وشيكاً على قاعدة إلغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران مقابل عودتها للمربع الأول في برنامجها النووي الذي يجعل تخصيب اليورانيوم بمستوي 3.76 بالمئة.
كانت هذه هي المؤشرات والمعطيات الأولية بعيدًا عن التصورات التي تعتقدُ أن الإدارةَ الأمريكية الحالية لا يمكنها المغامرة بالعودة إلى الاتّفاق النووي في ظل استحقاقات انتخابية مقلقة جسّدتها ظاهرةُ فشل ليز تشيني المعارضة لسياسات دونالد ترامب في الترشح للانتخابات النصفية الأمريكية عن ولاية وايومينغ أمام منافستها الجمهورية هارييت هيغمان التي حظيت بتأييد ترامب ودعمه.
هذا هو المعلن.. لكن غير المعلن هو إحساس الولايات المتحدة أن الملف الإيراني أصبح قضية جيوسياسية للولايات المتحدة تحديداً، والدول الغربية بشكل عام، بمعنى أن واشنطن تشعر الآن بضرورة تحييد إيران عن روسيا والصين خُصُوصاً بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية.
في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، يقول دبلوماسي غربي وثيق الصلة بمصادر القرار في الولايات المتحدة: إن الولايات المتحدة “تعاملت مع إيران بعيدًا عن مصالحها الاستراتيجية وذلك لمصلحة حفنة من المال وقنينة من الشراب الذي سال له لعاب ترامب، تحديداً كما نشاهد ذلك في عديد أفلام الكاوبوي الأمريكية”.
يضيف هذا الدبلوماسي أن إدارة بايدن “تفكر بشكل مختلف، ولعل بقية الدوائر الأمريكية تشاطرها الرأي حتى تلك التي يسيطر عليها الجمهوريون في القضايا التي تتعلق بالملف الإيراني”، فالدبلوماسي الأمريكي المحنك وليام بيرنز الذي يشغل منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) حَـاليًّا “يُعتبر المنظر السياسي للإدارة الأمريكية الحالية وله سطوته أَيْـضاً على القضايا الاستراتيجية الخارجية للإدارة، على حساب مستشارية الأمن القومي في البيت الأبيض وحتى وزارة الخارجية إلى حَــدٍّ بعيد”.
وليام بيرنز –يضيف الدبلوماسي الغربي– “يعتقد أن الانسحاب من الاتّفاق النووي عام 2018م، لم يخدم المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة ولم يخدم مصالح حلفائها في المنطقة، ترامب استطاع أن يبيع الاتّفاق النووي مع إيران بـ450 مليار دولار استلمها من السعوديّة مقابل دفع إيران باتّجاه تخصيب اليورانيوم إلى مستوي 60 بالمئة وأوصلها إلى عتبة إنتاج القنبلة الذرية، كما مكّنها من تعزيز علاقاتها مع أصدقائها في المنطقة والانفتاح على العدوين اللدودين للولايات المتحدة الصين وروسيا”.
ويزيد محدثي أن الصورة أصبحت أكثر وضوحاً بعد الأزمة الأوكرانية ونظريات بيرنز تبدو أكثر واقعية عندما يتم النظر إلى التحالف الصيني الإيراني الروسي؛ باعتبَاره عاملاً جيوسياسيًّا كان قد حذّر منه مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق زبيغنيو بريجينسكي عندما وصفه بـ”تحالف الفقراء” (بالمقابل، فَإنَّ أمريكا ومنظومة تحالفاتها هم “تحالف الأغنياء”!).
يضيف الدبلوماسي الغربي نقلاً عن تقرير أمريكي اطلع عليه أن وليام بيرنز “يعتقد أن الدخول في صفقة مع إيران لخفض التصعيد في برنامجها النووي أمرٌ يحقّق منافع استراتيجية للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، وكذلك يُساعد في محاولة إبعاد طهران عن بكين وموسكو”، ويرى أن الانسحاب من الاتّفاق النووي “لم يكن سوى لعبة صبيانية غير ناضجة لم تنسجم مع مصالح الولايات المتحدة”، معرباً عن اعتقاده أن الولايات المتحدة لن تنسحب من الاتّفاق حتىى وإن عاد الجمهوريون إلى البيت الأبيض؛ لأَنَّ الخسائر كانت باهظة ومعطيات العام 2018م مختلفة كَثيراً عن معطيات العام 2022م.
وَدّعتُ مُحدثي وأنا أفكر في ما سمعته منه، ولا سيما لجهة تأكيده أن طهران على أعتاب مرحلة العودة إلى الاتّفاق النووي، ورحت أسأل نفسي: ماذا تُريد إيران أن تفعل؟ هل هي منسجمة مع ما يُفكر به وليام بيرنز؟ وبماذا تُفكر بعد هذه العودة إن حصلت؟
حتماً لا يُفكر مطبخ القرار الإيراني بالابتعاد عن الأصدقاء خُصُوصاً أُولئك الذين وقفوا مع طهران في أصعب الأوقات، وبالتالي تريد إيران بناء هيكليتها الاقتصادية وفق برنامجها 2040م، لتحقيق حالة من الاستقرار والاستدامة، حتماً، ستبادر إيران إلى تنشيط برنامج العمل المشترك الاستراتيجي مع الصين (أمده 25 عاماً) والذي دخل مرحلة التنفيذ بعد تلكؤ ناتج عن العقوبات الأمريكية، كما أنها تعمل للتوقيع على تمديد الاتّفاقية الاستراتيجية مع روسيا التي أمدها 20 عاماً، وتتطلع إلى تفعيل دورها الاقتصادي في منظمة شنغهاي واتّفاقية البريكست.
لقد أثبتت تجارب العقود الماضية أن طهران تُحسّن توظيف التطورات في خدمة مصالحها الوطنية والقومية وتحول التهديدات إلى فرص وتنمي قدراتها وإمْكَانياتها في الردع والمواجهة والبناء، تخطئ الولايات المتحدة إذَا اعتقدت أنها تستطيع تحييد إيران وإبعادها عن الصين وروسيا؛ لأَنَّ السياسة الأمريكية تعاملت معها بوقاحة فجة خلال العقود الأربعة الماضية، وعندما أراد الرئيس الأسبق باراك اوباما ترميم هذه العلاقة جاء الرئيس ترامب بفوضوية لكي يُعزّز عدم المصداقية الأمريكية.
نحنُ أمام مقاربة جديدة بين إيران وأمريكا؛ لأَنَّ بقية الدول الغربية لا حول لها ولا قوة بعد الأزمة الأوكرانية، وتستطيع الولايات المتحدة إعادة المصداقية والصدقية لكلمتها مثلما تستطيع إعادة ترميم الثقة مع إيران؛ لأَنَّ ذلك يخدم مصالح الطرفين على أَسَاس معادلة “رابح/ رابح”.