21 من سبتمبر ..الثورة اليمنية الخالصة
المسيرة – د. محـــمد البحيصي/ كاتب وباحث *
الشعب اليمني كغيره من شعوب الأرض يرى أنّ من حقّه أن يعيش حرّاً، فلا تبعية ولا هيمنة ولا تسلّط ولا استبداد، وهذا حق فطر الله الإنسان (مطلق الإنسان) عليه، فما بالك بشعب أبي، عُرف في التاريخ بنزعته الاستقلالية، وبشخصيته المتميّزة، وبهويته الإيمانية، وبجغرافيته المنيعة، وبإنسانه الصلب: { أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} وكأنّه قُدّ من صخور جباله الشمّاء، ومن بلاد عُرفت في التاريخ بالسعيدة في نفس الوقت الذي عُرفت فيه بمقبرة الغُزاة.
شعب حرٌّ كريمٌ لا يقبل الضيم، ولا يعرف الخنوع، يرى في الذلّة كفراً، وفي الموت سعادة إذا كانت هي المعادل للحياة مع الظالمين.
والمُتتبّع لتاريخ اليمن يمكنه ملاحظة قدرة اليمنيين الفائقة على النهوض والتنمية في الفترات التي شهد فيها اليمن نوعاً من الاستقرار حتّى لو كان هذا الاستقرار نسبيّاً، وأنّ الاستعداد والقابلية للنهوض قائمة وحاضرة في إنسان هذه الأرض عبر حضارته التي تنقلّت في جغرافيته الواسعة كسبأ ومعين وحمير وقتبان وغيرها، وأنّه متى توفّر لليمن بعض الاستقرار السياسي والاجتماعي فإنّه سرعان ما يستعيد نموذجه الحضاري، ودوره الإقليمي، ولعلّ هذه الظاهرة هي التي تفسّر حرص الجوار اليمني عبر التاريخ على عدم استقرار اليمن، وعلى الحيلولة دون استفادته من موقعه الجغرافي الفريد ومن ثرواته الهائلة التي تختزنها أرضه، ومن إنسانه الضاربة جذوره في عمق الحضارة الإنسانية، وقليلة هي الفترات الزمنية التي تمكّن فيها اليمن من عبور حالة التشتّت والانقسام التي ساهمت طبيعته الوعرة ومساحته الواسعة وبناؤه السوسيولوجي في تغذيتها باعتبارها واقعاً مطلوب التعايش معه، كما يتعايش المريض مع مرضه.
ومن استقرأ ما مرّ باليمن من محطّات تاريخية ولا سيّما تلك التي شهدها القرن العشرين من بداياته مع تأسيس الجارة السعودية، وقبل ذلك في القرن التاسع عشر مع الوجود البريطاني في جنوب اليمن، وقبله الوجود العثماني نعلم أنّ أعداء اليمن الإقليميين والدّوليين يدركون تلك الحقيقة التي أشرت إليها، وهي قدرة اليمن على النهوض وامتلاك الدّور المؤثّر إذا توافرت شروط الاستقرار في ربوعه، ولذا فقد عمل هؤلاء كلٌّ بطريقته على إبقاء اليمن مشرذماً يسوده قانون الفوضى والصراعات البينية التي تبقيه خارج دائرة الاستقلال والمبادرة وتسوقه إلى دائرة التبعية والوصاية، وبالتالي يظل في وضعية متخلّفة متكففّة، وقد ورثت الولايات المتحدة الأمريكية هذه السياسة العدوانية تجاه اليمن بشكل مباشر وفج، وعبر أداتها الأخطر في المنطقة (السعودية) التي تلتقي سياستها مع سياسات الولايات المتحدة فيما يخص تبعية وارتهان وضعف اليمن، وهنا وللأسف الشديد وجد هذان الطرفان (الأمريكي والسعودي) في النظام السياسي اليمني الحاكم وخاصّة في العقود الثلاثة التي سبقت ثورة 21/سبتمبر/2014، الأداة الأطوع والأمثل لتمرير مشروعهم الخبيث في اليمن وهو نفسه المشروع الذي قاد تحالف العدوان لإعلان حربه على الشعب والثورة في 26/03/2015 وإلى الآن.
ثورة 21 سبتمبر و “الربيع العربي”
ما من عاقل ولا غيور على وطنه وأمّته إلّا ويرى أنّ مسيرة أوطاننا التي ضربها الاستبداد والفقر واحتكار ونهب الثروات، والإفساد بكل عناوينه، والظلم، وتفشّت فيها المنكرات التي حظيت على الأغلب بغطاء من الحكومات، تحتاج ضرورة وبإلحاح للتغيير والاستبدال، ولمّا كان هذا مستحيلاً أو شبه مستحيل (بدليل التجارب) فقد كان لا بدّ من (الثورة) كآخر العلاج الكي، وهذا ما كان مع انطلاق ما سُمّي بـ “ثورات الربيع العربي”، حيث خرجت الجماهير إلى الساحات بما يشبه الفوضى دون تخطيط أو تنظيم أو رؤية أو برنامج أو حتّى قيادة، وكأنّها الطوفان الذي يدمّر كل من أمامه، دون أن يمتلك شروط إعادة البناء، ولعلّها (أي الجماهير) كانت معذورة في ذلك، فقد سامها الحكّام سوء العذاب، وأذاقوها كل ألوان الذل والهوان، وحبسوا أنفاسها، وجثموا على صدورها طوال عقود من الزمن، ولهذا كان لا بدّ من هذا الانفجار أيّاً كانت نتائجه وتبعاته.
في هذه الأجواء المضطربة كان هناك من يتربّص بهذا (القطيع) إن جاز التعبير، لينقضّ عليه في اللحظة المناسبة، فيشتّته، ويفترسه.. إنّها الثورة المضادة، ومنظومة الدولة العميقة، والوحش الأمريكي الصهيوني الذي يراقب ويتدخّل ويدير، وقبل ذلك فإنّه كان قد صنع أدواته التي زجّ بها في هذه الحراكات لتسيطر عليها وتوجهها حيث يريد.
إنّ النظام العربي الرسمي وفي النموذج الأسوأ للحكم الذي مارسه على شعوب بلادنا استطاع أن يجعل من الدولة والسلطة والحاكم شيئاً واحداً.. فالدولة هي نظام الحكم (السلطة) والسلطة هي (الحاكم).. وحين رفعت الجماهير شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” أو شعار “ارحل” فإنّ هذا كان يعني واقعياً سقوط النظام والدولة مع سقوط الحاكم، وبالعكس فقد صار الدفاع عن الحاكم هو المعادل الموضوعي للدفاع عن الدولة والنظام.. ومن هنا جاءت معضلة التغيير أو إن شئت قلت انسداد الطريق إلى التغيير.
ولا شكّ أنّ الشباب اليمني مثله مثل سائر الشباب العربي كان يتطلّع إلى هذه الفرصة التاريخية، وكانت فرصته في 11شباط / فبراير 2011 فخرج إلى الساحات تحدوه آمال عراض بتغيير النظام السياسي، وبناء الدولة المدنية، وفي ساحات ومخيمات التغيير التقى الشباب اليمني، وتشكّلت التنسيقيات والائتلافات التي عملت على استيعاب الجموع المتدفقة، وجميعها يتطلع إلى اللحظة التي يُعلن فيها رأس النظام التنحّي والتخلّي عن السلطة كما حدث في تونس ومصر.
احتواء الثورة
ركبت القوى المضادة للتغيير موجة (الثورة) وهذه القوى يمكن تلخيصها في شركاء الحكم والنظام الذين تضررّت مصالحهم وحجم مشاركتهم في السلطة بعد حرب صيف 1994 وفي انتخابات 1997 التي أطلقت يد المؤتمر الشعبي العام (أي الرئيس صالح) في التحكم في البلد.
وهؤلاء بالأساس كانوا طوال عقود حكم (صالح) شركاء في السلطة ونهب وتدمير مقدّرات اليمن، وهم حزب التجمّع اليمني للإصلاح، والجناح العائلي في هذا الحزب، وعلي محسن صالح في المؤسسة العسكرية والأمنية، وبانضمام هؤلاء لصفوف شباب الثورة تمّت عملية الاحتواء، والتي بدأت بسيناريو الاشتباكات المسلّحة فيما عُرف بالجمعة السوداء، ثم اللقاء الشهير في منزل عبد ربّه منصور هادي، حيث شارك في هذا اللقاء كل من علي عبد الله صالح وكان هو الرئيس، وهادي، وعلي محسن الذي كان قد انضم إلى الثورة، وأشرف على اللقاء السفير الأمريكي، وتم في هذا اللقاء ترتيب تسليم السلطة لنائب صالح هادي على أن يُغادر صالح ومجموعته من أبنائه وأقاربه، وكذلك علي محسن وحميد الأحمر وآخرين من حزب الإصلاح اليمن.. وقد تطوّر هذا الاتفاق فيما بعد إلى ما عُرف بـ(المبادرة الخليجية) حيث قام وفد من أحزاب اللقاء المشترك بزيارة دول مجلس التعاون الخليجي ودولة روسيا الاتحادية، وفي هذه الزيارات نُوقشت أفكار المبادرة التي عُدّلت خمس مرّات إلى أن تمّ الاتفاق عليها وعلى آلية تنفيذها، ووقّعت الأطراف المشاركة عليها في 03/04/2011، وقضت بتسليم صالح رئاسة الجمهورية لنائبه هادي، وتشكيل حكومة مناصفة بين الموقّعين على المبادرة، وأن يكون رئيس الوزراء من حصّة أحزاب المشترك مقابل رئيس الجمهورية من حزب المؤتمر.. وعلى ضوء ذلك انسحبت أحزاب المشترك من ساحات الاعتصام في كل المحافظات ومنها أمانة العاصمة صنعاء، واشتركوا في تشكيل الحكومة مناصفة.
موقف “أنصار الله” وبقيّة المكوّنات المستقلة من المبادرة الخليجية
اعتبر “أنصار الله” المبادرة الخليجية مؤامرة على ثورة الشباب، وإعادة لإنتاج نفس النظام بكل سلبياته التي رفضها الشعب وثار عليها وقدّم في سبيلها كل التضحيات، ولذا فقد أعلنوا ومعهم السّواد الأعظم من الجماهير المحتشدة والمعتصمة رفضهم للمبادرة، وعدم الالتزام بها، وتمسّكوا بالثورة واستمرارها وتصعيدها.. ومع أنّهم اشتركوا في الحوار الوطني الشامل من مارس 2013 إلى يناير 2014 إلّا أنّ جماهيرهم مع بقية الثوّار ظلّت معتصمة في ساحات الثورة.
سياسة (هادي) التآمرية والانقلابية
معلومٌ أنّ (هادي) هو من ذات النسيج الذي رفضه الشعب، وأنّه تم فرضه من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية، كأداة طيّعة ورخيصة في يد قوى الهيمنة والوصاية على اليمن..
ولذا فإنّه ومن اليوم الأول لاستلامه مهامه الجديدة بدأ في تنفيذ مخطّط إعادة اليمن إلى الحظيرة الأمريكية السعودية وهي التي لم تخرج منها بعد.. وبدأ ببسط نفوذه واستحواذه على الحوار الوطني وفرض أدواته عملاء السفارات لإدارة جلسات الحوار، وصولاً إلى محاولة فرض مشروع الأقاليم الستة خارج إطار التوافق والمعايير التي بموجبها تحدّد عدد الأقاليم وجغرافيتها، كما عطّل تشكيل المؤسسات التنفيذية والتشريعية للمرحلة الانتقالية، وعقد تحالفات مع نصف أحزاب المشترك وجزء من قيادات المؤتمر الشعبي العام، وجزء من الحراك الجنوبي، وبعض الشخصيات المستقلة وناشطين محسوبين على السفارات، وحصر الشراكة في بعض الأطراف السياسية بإيعاز من السفارة الأمريكية، وتفرّد بالقرار السياسي، وقرّب بعض الرموز العسكرية والأمنية والقبلية وكلّها محسوبة على الفساد.
وهكذا تم الالتفاف على أهداف الثورة الشبابية والانقلاب على دعوات التغيير والإصلاح، وفوق ذلك قرّرت حكومة بحّاح رفع الدعم عن المشتقّات النفطية، ممّا يعني جرعة قاتلة والمزيد من إفقار الشعب ومعاناته، وهذا صعّد الاحتجاجات الشعبية بقيادة أنصار الله الذين باتوا يشكّلون التيار الشعبي الثوري الأوسع الرافض لكل سياسات حكومة هادي- بحّاح المرتبطة بمشروع ارتهان اليمن للخارج.
لقد مثّل يوم 21/سبتمبر 2014 محطة فاصلة وتحوّلاً كبيراً في تاريخ اليمن الحديث بتحرير الشعب اليمني من كبار رموز الفساد الذين أعاقوا بناء الدولة ومؤسساتها، وسهّلوا الوصاية الخارجية التي تتحكّم في سيادة البلاد عبر هذه الشخصيات والقوى، ولم يكن هذا اليوم المجيد يستهدف مجرّد أشخاص مثل هادي، وبحّاح، وعلي محسن، وبيت الأحمر، ورموز الإصلاح وقياداته المرتبطة بالمشروع السعودي فحسب، وإنّما كان الهدف هو تصحيح مسار الثورة الذي انحرف به هؤلاء، وإعادة البلد إلى المسار الصحيح الذي تطالب به الجماهير المستضعفة، وقد توّج يوم 21/سبتمبر بتوقيع اتفاق السلم والشراكة وملحقه الأمني، بمشاركة /13/ حزباً ومكوّناً سياسياً، وبرعاية أممّية، وقد حرصت الثورة من خلاله تأكيد مخرجات الحوار الوطني وترسيخ مبدأ الشراكة.
وقد تميّز موقف أنصار الله في الحفاظ على الشراكة الوطنية مع مختلف القوى والمكوّنات السياسية، بالتوقيع على هذا الاتفاق، الذي تضمّن مطالب القوى السياسية والشعبية لتسوية انحراف بوصلة المسار السياسي والالتزام بمخرجات الحوار الوطني..
ورغم التأييد لهذا الاتفاق من مجلس التعاون الخليجي، وجامعة الدول العربية، ومجلس الأمن الدولي والاتحاد الأوروبي، والخارجية الأمريكية، إلّا أنّه سرعان ما نكثت دول الخليج وأعلنت السعودية اعتراضها، وأمرت هادي وبحّاح بأن لا يتم إشراك مكوّن أنصار الله في الحكومة، ولا حتى المتعاطفين مع أنصار الله، وكانت هذه محاولة خبيثة من السعودية لتفجير الأوضاع أعقبتها أوامر باستقالة هادي وبحّاح في 21/01/2015 كان تمهيداً لخلق حالة فراغ دستوري في هيئات ومؤسسات الدولة تمهيداً للعدوان المباشر على اليمن، وعليه فقد بدأت الأحزاب والمكونات السياسية الموقّعة على اتفاق السلم والشراكة في حوار سياسي برعاية أممية، وإزاء تعنّت ومماطلة ومخادعة عدد من القوى السياسية (وأغلبها وقف لاحقاً مع العدوان) ووصول الحوار إلى طريق مسدود، فقد اتخذ الثوّار قرار الإعلان الدستوري في 6/فبراير/2015، وتشكيل لجنة ثورية لقيادة الدولة كتجسيد للتوافقات الأولية التي كانت قد توصّلت إليها الأطراف السياسية، وكضرورة لتحقيق طموحات الشعب اليمني والاستقرار على المستوى الاقتصادي والأمني، والحفاظ على مؤسسات الدولة من الانهيار، وقد كان لأنصار الله الدّور الأساسي في ترسيخ الشراكة الوطنية في إدارة شؤون الدولة، ولم يؤمنوا يوماً بالاستئثار بالسلطة رغم أنّهم يمتلكون الشرعية الثورية لذلك..
وهكذا من تاريخ 21/01/2015 وهو تاريخ استقالة هادي إلى هروبه بعد شهر من هذا التاريخ كان الإعلان الدستوري وتشكيل اللجنة الثورية العليا لإدارة الدولة والحفاظ على مؤسسات الدولة من الانهيار، ومن ثم جاء الإعلان من قبل السفير السعودي من واشنطن في 26/03/2015 عن بدء العدوان وإعلان الحرب على اليمن التي أسماها تحالف العدوان (عاصفة الحزم) بدعوى أكذوبة الدفاع عن الشرعية المتمثّلة في حكومة (هادي) المستقيل والهارب والفاقد للشرعية المزعومة.
هذه الحرب العدوانية التي أدارتها الولايات المتحدة ضمّت تحالفاً كان في حينه يتكوّن من عشر دول هي (السعودية التي قامت بالعدوان ومعها الإمارات، والبحرين، والكويت، وقطر، ومصر، والأردن، والمغرب، والسودان، والسنغال..).
وبهذه الحرب العدوانية فتحت صفحة جديدة في تاريخ اليمن السّاعي للحرية والاستقلال والكرامة، والجاهد لاستعادة هويته الإيمانية التي منحته شخصيته المتميّزة.
ما بين ثورتي 21-26 / سبتمبر
لا يسع المرء وهو يتحدّث عن ثورة 21/سبتمبر 2014، موجباتها، ومحتواها الثقافي والفكري، ومرتكزاتها العقائدية، ومضامينها الاجتماعية، وأهدافها، إلّا أن يعود بالزمن إلى /52/ سنة، وهو الزمن الممتد ما بين ثورة 26/سبتمبر1962 وثورة 21/سبتمبر/2014 ليس لأجل المقارنة بين الثورتين على أهمية هذه المقارنة، ولكن لأجل التأكيد على قضية أراها في غاية الأهمية، وهي قضية حيوية الشعب اليمني، وحجم المخزون الثوري الإيماني لديه، ومساحة الحرية التي يتطلّع إليها ويأبى أن تُصادر تحت أي عنوان أو مسمّى، والقدرة الكبيرة على الوعي باللحظة التاريخية والإبداع في الإمساك بها وتوظيفها، ولعلّ هذا ما يُفسّر نجاح الدعوات الدينية في اليمن بحيث صار اليمن عبر التاريخ صدراً ووعاءً منشرحاً لرسالات السماء، في لون من الاستجابة قل نظيره أو انعدم.
وإذا كانت الثورة فيما تعنيه أنّها تمثّل نقطة مفصلية في حياة الشعوب من خلال تغيير الأوضاع القائمة تغييراً جذرياً في مرحلة تعتبرها نهاية المراهنة على التغيير والإصلاح من خلال النظام القائم، بالتوازي مع عجز المعارضة السياسية عن المبادرة، وتهيّبها من تحمّل تبعات حركة التغيير، وعجزها عن استقطاب الجماهير فضلاً عن قيادتها، وهذه تعد شروطاً ذاتية لمن يتصدّى لمهام التغيير الثوري الجذري..
وإذا كانت الثورة أيّة ثورة يجب أن يتوفّر لها ثلاثة أركان وهي:
القائد.
المشروع.
الجمهور (الحاضنة) المؤمن بالقيادة ومشروعها الثوري..
هذه الأركان الثلاثة ومن خلال قراءتها الواعية والبصيرة بالواقع وتشخيصها الدقيق لأزمته، ولنقاط قوته وضعفه، وقدرتها على الحشد والتنظيم والتعبئة والقيادة والحركة يمكنها أن تعبر بقطار الثورة المحطّات الثلاث التي هي بمثابة المراحل الثلاث التي تواجه كل الثورات:
مرحلة “الهدم”: وهي التي يتم فيها إسقاط النظام القائم، وهي المرحلة الأولى ولعلّها الأسهل ويمكن وصفها بأنّها مرحلة “إبطال الباطل”، وبهذا تكون الثورة قد قطعت نصف الطريق فحسب.
مرحلة التمييز: وهي المرحلة التي يظهر فيها المتربّصون بالثورة والمنافقون في الداخل والخارج، وعملهم هو التسلّق على الثورة، وركوب موجتها، لغرض احتوائها، ومن ثم حرفها، والهيمنة عليها، وإعادة الوضع على ما كان عليه قبل الثورة، وغالباً ما يكون هؤلاء من أتباع النظام الساقط، وامتداداتهم، وهذا ما يُسمّى “الثورة المضادة” ومن هنا تأتي أهمية مرحلة “التمييز”: { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ..} وهي المرحلة الانتقالية الأخطر باعتبارها مرحلة إزالة ركام الهدم، أو مرحلة (التخلية).
مرحلة تمكين البديل: وهي المرحلة الأصعب والأعقد والأطول نفساً والتي من خلالها يمكن الحكم على مدى نجاح الثورة من عدمه، وهي مرحلة (إحقاق الحق)، وإنجاز الثورة لأهدافها ولتطلعات جماهيرها وتضحياتهم وترسيخ مبادئ العدل والحق والإنصاف..
وعلى أساس معيار أركان الثورة ومراحلها هذه يمكننا عرض ثورة 26/سبتمبر وهي التي اعتبرت الثورة الأم لثورة 14/أكتوبر/1963 وصولاً إلى ثورة الشباب 11/فبراير/2011 لنرى أيٍّ من الأركان توفّرت لها، وأيّ من المراحل استطاعت تجاوزها وإنجازها.
وهنا فإنني لا أُفشي سرّاً حين أذكّر بأنّ ثورة 26/ سبتمبر لم تكن يمنية خالصة، لا من حيث فكرتها، ولا من حيث أدواتها ولا أُبالغ إن قلت إنّ النظام المصري في ذلك الوقت كان صاحب اليد الطولى، ومالك القرار في مجرياتها، وذلك في سياق الصراع المصري –السعودي على النفوذ، وعلى طبيعة الحكم، وهذا ما يُفسّر موقف السعودية من (الثورة) التي رأت فيها المملكة خطراً على نظامها، ومقدمة لتمدّد الظاهرة الناصرية في جزيرة العرب، وعلى كلِّ فإنّ الدّور المصري في ثورة 26/سبتمبر كان من الوضوح في الحضور الطاغي إلى حدِّ الهيمنة على مسيرتها منذ البدء، وهذا ما أدركه سريعاً الشهيد محمد محمود الزبيري وعبّر عنه قولاً وعملاً.
ولهذا… ومع الإقرار بأنّ ثورة 26/سبتمبر التي افتقدت القيادة الوطنية الخالصة المستقلة، وافتقدت بذلك الرؤية الوطنية الخالصة، استطاعت إنجاز المرحلة الأولى من الثورة وهي إسقاط النظام القائم، لكنّها توقّفت بعد ذلك نظراً لعدم استقلاليتها، وللحضور الإقليمي (السعودي –المصري) الطاغي، ولم تتمكّن من إنجاز المرحلتين التاليتين..
وكلّ المحاولات التي جرت لتصويب مسار الثورة وأهمها محاولة الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي وقبله القاضي عبد الرحمن الإرياني، باءت بالفشل رغم بعض الإنجازات التي تمّ مصادرتها عبر قوى الثورة المضادة التي كانت السعودية تتحكّم في قراراها وتصادر إرادتها..
وبنظرة سريعة لأهداف ثورة 26/سبتمبر الستّة ندرك البون الشاسع بين هذه الأهداف وبين واقع الحال الذي كان يعيشه اليمن، والذي أوصل البلاد إلى يوم 11/ فبراير وثورة الشباب ومن ثم ثورة 21/سبتمبر..
نعم كانت ثورة 26/ سبتمبر ساحة نضال جمعت اليمنيين من كلّ الجغرافيا اليمنية شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، لكن قيادتها المرتهنة للخارج لم تستطع التخلّص من التبعية لهذا الخارج، وكلّ ما استطاعت فعله بعد ذلك وبعد أن تم خطف الثورة هي أنّها نقلت البندقية من الكتف الموالي لمصر إلى الكتف الموالي للسعودية، وكان آخر همّها مصلحة اليمن، وكانت العقود الثلاثة الأخيرة من عمر هذه الثورة وهي العقود التي حكمت فيها أسرة (عفّاش) متقاسمة السلطة والثروة مع أسرة (الأحمر) خير تعبير عن مألات هذه الثورة ونهاياتها، وهو ما قاد إلى ثورة الشباب 11/فبراير 2011 وهي التي تم سرقتها واحتوائها من خلال ذات القوى المتسلّقة التي تسلّطت على اليمن إنساناً وثروة وقراراً طوال عقود، وأرادت من جديد إعادة إنتاج ذات النظام البائد، وبتبعية أكثر انقياداً واستسلاماً.
ولولا أنّ الله سبحانه قد قيّض لشباب الساحات الصادقين الذين خذلتهم قوى ومراكز الثورة المضادة تلك الفئة المؤمنة الصادقة المتمثلّة بـ “أنصار الله” ومن لحق بهم من شرفاء اليمن، لكان مصير هؤلاء الشباب الثوّار القتل أو السجن أو النفي أو التشريد.
وهكذا جاءت ثورة 21/ سبتمبر2014 بقيادتها الواعية والبصيرة، لتنتشل اليمن كل اليمن من غيابت جبِّ التبعية والارتهان، ومن شعارات الاستقلال الزائفة، وحملت لواء الدفاع عن وحدة اليمن وحريته واستقلاله، وقطع يد الوصاية التي عاثت فساداً فيه طوال ستة عقود من الزمن.
يقول السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي: ” ثورة 21 سبتمبر هي المحطة التي انطلق من خلالها الشعب اليمني للخروج من الماضي المظلم، ولبناء المستقبل على أساس المبادئ والقيم التي ينتمي إليها هذا الشعب”.
ثورة 21/ سبتمبر ثورة نقية وخالصة، تحقّقت بمشاركة شعبية وجماهيرية واسعة من مختلف فئات ومكوّنات الشعب اليمني..
ثورة 21/ سبتمبر كانت نابعة من وعي وإحساس بالمسؤولية، ومن واقع معاناة حقيقية، ولم يكن تحركاً بدافع خارجي، هذا التحرّك كان حكيماً ومميزاً بخطواته الفاعلة والقوية، ويعبّر عن هوية الشعب اليمني، شعب الإيمان والحكمة”.
هذه الثورة التي ورثت كل هذا الكم من الرّكام السياسي والثقافي والاقتصادي والعسكري والأمني الذي صنعه نظام التبعية والوصاية، وجدت نفسها ومرة واحدة وجهاً لوجه أمام مسؤولية قيادة الدّولة بمؤسساتها المنقسمة والمهلهلة والمتهالكة بفعل سياسة التحاصص والشراكات التي تعاطت مع الوطن كغنيمة قابلة للتقسيم، ممّا يعني المحافظة على مؤسسات الدولة من الانهيار ومن ثمّ دفع قطار التغيير لعبور هذه المؤسسات بما يكفل ترجمة أفكار الثورة وأهدافها، وعدم التوقّف عند محطة تسيير هذه المؤسسات بما هي عليه من خراب وفساد، لا سيّما أنّ “أنصار الله” يرفعون لواء التغيير وهذه أولوية وليس مجرّد التسيير رغم أنّ عملية التسيير ليست سهلة وخاصّة في أجواء العدوان الغاشم الذي لم يمهل الثورة سوى ستة أشهر، وحتى هذه الأشهر كانت قوى العدوان تعدّ في داخل اليمن وتحضّر أدواتها وتجهّزهم ليكونوا الطابور الخامس، والجيش الذي يكمن في انتظار إشارة البدء لإسقاط القلعة من الداخل تزامناً مع العدوان الخارجي.
وإذا كانت الثورة قد أنجزت خطوة إسقاط النظام السابق وكنس أدواته، واستطاعت في ظل العدوان والحصار المستمر منذ ثماني سنوات تسيير أمور الدولة وأجهزتها، وهما منجزان ولا شك في غاية الأهمّية، إضافة إلى بناء القوة العسكرية المقتدرة التي فاجأت العالم بقدرة الإنسان اليمني على الإبداع والابتكار في ظل عدوان شامل وحصار خانق، وأكثر من هذا فقد استطاع هذا الإنسان المجاهد أن يقلب موازيين وقواعد الحروب ليقدّم نموذجاً فريداً يستحق التوقّف عنده طويلاً، ودراسته وتدريسه كمادة ليست فقط علمية وعسكرية، وإنّما كمادة للإيمان سلاحاً بيد الشعوب المستضعفة تواجه به جبروت الظلم والاستكبار..
وتبقى مهمة بناء الدولة (العادلة والقوية) هي المهمة الأكبر لثورة 21/سبتمبر، بعد أن برهنت على قدرتها على حماية الوطن.
وحتى يكتمل شعار الرئيس الشهيد الصّماد: “يد تحمي ويد تبني”، فإنّ الثورة في حاجة لتحقيق هذا الشعار، وبناء الدولة هو الموضوع الذي شغل عقول المصلحين والقادة والمفكرين والفلاسفة في قديم الزمان وحديثه، وهو فعل حاضر ومستمر في سيرورة لا تتوقف، وإنّما هو دوماً في صيرورة التطوير والتحديث ورفع البناء على قواعد راسخة مؤسسة على عقد اجتماعي يتراضى ويتوافق عليه أبناء الوطن ليصبح ملزماً ومرجعية يطمئن الجميع لها، فهو للجميع لا لفئة ولا لحزب ولا لجماعة، الكل فيه شركاء، وهو ليس الإطار الجامع فحسب، بل هو الروح الجامعة للشعب، المعبّرة عن إرادته وتطلعاته، وقبل ذلك عن وحدته وحريته واستقلاله..
ومعلوم أنّه (بالبناء السياسي والبناء الإداري) تتحقّق البنية التحتية للدولة، وإنّما يكون التمايز في عملية البناء بالبناء السياسي الذي يحدّد طبيعة نظام الحكم في البلد، وأمّا البناء الإداري فهو مجموعة نظم وعلاقات وقوانين تكاد تكون مشاعة بين الأمم والشعوب وهي أقرب إلى الموضوع العلمي التجريبي المحايد الذي يُعرف “بعلوم الإدارة”، ولا علاقة له بالمحسوبية ولا بالولاءات الشخصية، وإن كان من خصوصية في هذا فهي محدودة للغاية..
ويبقى البناء السياسي المؤسّس على العقد الاجتماعي هو الأهم في تحديد مسار الدولة وعلاقاتها وتموضعها، وخياراتها، ومشروعها الحضاري الإنساني..
ولا شك أنّ الدولة (العادلة والقوية) هي الخيار الأوحد الذي يمكنه جمع أبناء الوطن اليمني حيث يمكن لهذه الدولة تجسيد الانتماء والولاء لكلّ اليمنيين دون استثناء، وتبقى بعد ذلك الصيغة التي يتوافق عليها أبناء الوطن أعني بذلك صيغة النظام..
وأنا أرى أن لا يحول استمرار العدوان، دون إعطاء هذا الموضوع المركزي ما يستحق من الاهتمام والبحث المعمّق رغم الصعوبة التي يفرضها العدوان على التطرّق لمثل هذه القضية، ولعلّ من أهداف العدوان إشغال القيادة الثورية والسياسية كي لا تتناول هذا الموضوع الجوهري، وبهذا يظل البلد في حالة غياب اليقين بطبيعة نظامه السياسي وفي هذا ما فيه من إتاحة الفرصة للمشكّكين والمتربّصين، والمنافقين، وحتى للناس البسطاء العاديين أصحاب المصلحة في انتصار الثورة لكي يصنعوا فجوة بين القيادة والقاعدة يتسللوا من خلالها لضرب الثورة أو على الأقل لإعاقة حركتها نحو التغيير الشامل.
ثورة 21/ سبتمبر وفلسطين
لمّا كانت هذه الثورة هي ثورة الشعب اليمني الخالصة فضلاً عن كونها التجسيد الحق للمسيرة القرآنية التي ترتكز على الثقافة القرآنية، فقد كان لزاماً أن تكون فلسطين في قلب مشروعها القرآني، وهذا ما حدّده القائد الشهيد حسين بدر الدين الحوثي مبكّراً في العام 2002 حين أطلق صرخته الشعار: (الله أكبر -الموت لأمريكا -الموت لإسرائيل –اللعنة على اليهود –النصر للإسلام)، واضعاً بهذا الشعار مشروعه الإيماني القرآني في خط المواجهة والصدام مع المشروع الصهيوني الذي تُمثّل (إسرائيل) رأس حربته، وخندقه المتقدّم في جسد الأمة.
ومن اللحظة الأولى لإطلاق هذا الشعار تلخّصت مواقف الشعب اليمني وأحرار الأمّة والعالم من فلسطين باعتبارها قضية الأمّة المحورية والمركزية، وليست قضية الشعب الفلسطيني فحسب كما أراد وروّج لهذا المتخاذلون، المخلّفون، المنافقون، من عرب الولاية لأمريكا وإسرائيل..
هذا الشعار وضع حركة أنصار الله، ومن ثم الشعب اليمني العزيز بعد انتصار ثورة 21/سبتمبر وجهاً لوجه في مواجهة أمريكا وإسرائيل، الأمر الذي قاد هؤلاء لتحريك أدواتهم في المنطقة وعلى رأس هذه الأدوات السعودية والإمارات لإعلان الحرب على اليمن وعلى ثورة 21/ سبتمبر التي جعلت من تحرير فلسطين والأقصى هدفاً مبدئياً إيمانياً من أهدافها، وموقفاً مركزيّاً في سياساتها قولاً وفعلاً، وبهذا يمكن فهم طبيعة وأهداف العدوان على اليمن، فهو عدوان إسرائيلي بالدرجة الأولى عبر وكلاء إسرائيل في المنطقة وأدواتها، وهذا ما يفسّر تأكيد القيادة الثورية في اليمن المستمر على أنّ المعركة في اليمن هي في جوهرها معركة لفلسطين كما هي لليمن، وأنّ انتصار الثورة في اليمن ودحر العدوان وهزيمته يمثّل خطوة على طريق دحر الوجود الصهيوني في فلسطين وإنهاؤه..
ولم تقف ثورة 21/سبتمبر تجاه فلسطين عند الشعارات، كما اعتادات معظم الأنظمة العربية في تعاملها مع القضية الفلسطينية لدرجة أنّ بعض الأنظمة كانت ترفع الشعارات الكبيرة المتحدّثة عن الوقوف مع الشعب الفلسطيني، في نفس الوقت الذي كانت تتودّد فيه للصهاينة، وتقيم معهم علاقات مشبوهة، ومن هذه الأنظمة كان نظام (عفّاش) الذي أسقطته الثورة..
إنّ الموقف من فلسطين ومن الكيان الصهيوني بات مع ثورة 21/سبتمبر أحد ثوابت السياسة اليمنية الثورية، ويمثّل بعضاً من هويتها الإيمانية، ومن يقرأ المشهد اليمني منذ انتصار الثورة يدرك إلى أي مستوىً ارتقى هذا الموقف، وما حشود الملايين في يوم القدس العالمي، وفي العروض العسكرية وفي ردّات الفعل على جرائم الصهاينة في القدس والضفّة وغزّة، والمكانة المركزية لفلسطين في خطاب السيد قائد الثورة والقيادة السياسية، ومظاهر الدعم المختلفة للمقاومة الفلسطينية، وحضور اليمن كأحد ركائز محور المقاومة، إلّا بعض الشواهد على موقعية فلسطين من مركز الوعي للثورة اليمنية المباركة وقيادتها المؤمنة البصيرة، وشعبها الحر العزيز، يشهد بهذا الأعداء قبل الأصدقاء.
*رئيس جمعية الصداقة الفلسطينية – الإيرانية