الواقعُ الاقتصادي قبل الثورة الفتيّة وملاحمها في مواجهة العدوان والحصار والحرب الاقتصادية.. الصمودُ في أقصى تجلياته
المسيرة: د. يحيى علي السقاف*
ثورة الـ21 من سبتمبر هي الثورة التي انتصرت للمواطن اليمني وأوقفت مشاريع الاستئثار بالسلطة ومشاريع الفساد المالي والاقتصادي ونهب الثروات لصالح عصابة تسعى لمكاسب مصالحها الشخصية فقط وهي الثورة التي أعادت الأمل للشعب اليمني في الانتقال باليمن من مرحلة التبعية والسيطرة والاستعمار والعبودية لمراكز النفوذ من قوة الاستكبار العالمي التي تحتل وتستعمر الشعوب وتجعل من حكامهم بيادق تحَرّكهم كيفما تريد وتستولي على ثروات بلادهم وركائزها الاقتصادية وتعمل على إيقاف أية مساعٍ تعمل على حصول نهضة اقتصادية صناعية وزراعية علمية وتكنولوجية بغرض فرض سيطرتها الكاملة على القرار السيادي والاقتصادي لتلك الدول فاليمن كانت في نظر معظم الدول مُجَـرّد حديقة خلفية للنظام السعوديّ والدول المهيمنة في المجتمع الدولي فجاءت هذه الثورة المباركة وحرّرت اليمن من هذه الوصاية ووضعت حداً للتدخل الخارجي وأعلنت سيادة الشعب.
وعندما قامت ثورة الـ21 من سبتمبر المجيدة أدركت السعوديّة ودول الهيمنة أن اليمن الجديد سيمضي في طريق العزة والكرامة والحرية والنهضة الاقتصادية وامتلاك القرار السيادي واستغلال ثرواته الاقتصادية وموارده الطبيعية لذلك خططت القوة الظلامية وهيأت كُـلّ المجريات والأحداث لشن عدوانها الظالم وحصارها الجائر على الشعب اليمني وادّعت بهتاناً وزوراً أنها لصالح اليمن وإعادة الأمل إليه وذلك بعدما فقدت تلك الدول المحتلّة مصالحها السياسة والاقتصادية مع اليمن منها سياسيًّا انتهاء النفوذ والوصاية واقتصاديًّا خسرت أسواقها التجارية في اليمن والتي كانت تصدر فيها جميع السلع والبضائع السعوديّة والخليجية والأمريكية والذي سيتسبب في فجوة كبيرة للميزان التجاري لتلك الدول المحتلّة والتي تقدر خسارتها بمئات المليارات ولكن في ظل الحصار والقيود على الصادرات والواردات استطاعت دول العدوان أن تفرض على اليمن سلعاً خليجية تغطي معظم الأسواق اليمنية ولا يوجد للشعب اليمني المحاصر خيار في مواجهتها والاستغناء عنها.
محاولاتٌ أفشلتها الثورة
وشعبنا اليمني في هذه الأيّام يحتفل بالذكرى الثامنة لقيام ثورة الـ21 من سبتمبر واقتراب المولد النبوي الشريف وهو يعيش العروض العسكرية والأمنية المهيبة والانتصارات الكبيرة التي تحقّقت في جميع المجالات السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية رغم المؤامرات والخطط والأجندات التي كان وما يزال ينفذها تحالف دول العدوان في جميع تلك المجالات ونذكر منها بالتحديد المجال المالي والاقتصادي الذي استخدم العدوان فيه كُـلّ الطرق والأساليب لتدميره وبذل جهود خبيثة لإدراج هذا القطاع ضمن عدوانه الغاشم عن طريق فرض الحصار وحربه الاقتصادية في التحكم على معظم المنافذ الجوية والبرية والبحرية ونهب مواردها من الرسوم الضريبة والجمركية وفرض القيود على الصادرات والواردات والقرصنة على السفن الواصلة إلى ميناء الحديدة التي تحمل المواد الأَسَاسية من الغذاء والمشتقات النفطية.
ولم يكتفِ بذلك ولكن استخدام حربه العدوانية في السياسة المالية والنقدية عبر نقل نظام السويفت في البنك المركزي المركز الرئيسي بصنعاء إلى فرعه في عدن الذي كان له دور في قطع المرتبات على الموظفين وترتب على هذا الإجراء في نقل صلاحيات البنك طباعة حجم نقدي كبير جِـدًّا من العُملة الوطنية المزورة وصلت إلى أكثر من خمسة تريليونات وثلاثمِئة مليار ريال يمني تسببت في حدوث تضخم كبير في السلع والخدمات نتيجة انخفاض القوة الشرائية للعملة المحلية واستخدم تحالف العدوان العديد من الإجراءات الاقتصادية التدميرية التي أَدَّت إلى انهيار الاقتصاد الوطني وكلّ تلك الحرب الاقتصادية كان يهدف من تحقيقها حدوث معاناة للشعب اليمني في حياته المعيشية للضغط عليه وعلى قيادته الثورية والسياسية لفرض شروطه العدوانية ولتحقيق أهدافه التي فشل في تحقيقها في الجبهة العسكرية.
وفي هذا الإطار ورثت ثورة 21 سبتمبر ملفاً كَبيراً من الانهيار المُستمرّ لعملته المحلية والنهب المزدوج لثرواته السيادية والوضع المعيشي المتردي للمواطن اليمني والازدواج الوظيفي والأسماء الوهمية والاختلالات الهيكلية والتشريعية ومِلفاً كبيراً من ثقافة الفساد التي تم ترسيخها عبر الأجيال التي تعد أحد مخرجات الأنظمة السابقة ورغم كُـلّ ذلك الإرث الثقيل الكفيل بإعاقة التنمية لسنوات إلا أن دول تحالف العدوان كانت تدرك أن كُـلّ تلك التحديات والصعوبات التي تواجهها ثورة 21 سبتمبر ستزول أمام أي مشروع وطني تحميه إرادَة الشعب اليمني وتنفذه حكومات لا تخضع لأية إملاءات خارجية وستتجاوز كُـلّ التحديات وستتحقّق كُـلّ الأهداف وهو ما يتقاطع مع أجندات العدوان ومطامعه وأهدافه التي تسعى لإبقاء اليمن خارج مسار التنمية الاقتصادية والمالية والإدارية وتظل تقبع تحت الوصاية الدولية.
الأمر الذي يشير إلى أن اليمن يواجه وضعاً غير مسبوق في تدهور مؤشرات التنمية وتراجع أداء المؤسّسات وتفاقم الأزمة الإنسانية، حَيثُ تشير التقارير إلى أن ما يقارب 90 % من السكان تحت خط الفقر وَ30 % منهم وصلوا إلى المرحلة الخامسة من المجاعة فضلاً عن التدمير الذي لحق بأجزاءٍ كبيرة من البنية التحتية والمنشآت العامة والخَاصَّة ولا يزال اليمن يواجه أزمة إنسانية واجتماعية واقتصادية غير مسبوقة في ظل العام الثامن من العدوان والحصار فقد أسهم الضرر الكبير الذي لحق في تعطيل الخدمات الأَسَاسية وتسبب في كارثة إنسانية غير مسبوقة.
مكتسبات بديلةً لتوقعات الانهيار!
وفي ظل ثمان سنوات من العدوان والحصار الاقتصادي والحرب الاقتصادية على اليمن عمدت دول تحالف العدوان إلى تدمير كافة مقومات الحياة من منشآت إنتاجية وخدمية وبُنى تحتية وقد واجه اليمن ظروفاً اقتصادية واجتماعية وإنسانية وسياسية وأمنية غير مسبوقة؛ بسَببِ العدوان والحصار والحرب الاقتصادية للعام الثامن على التوالي والتي أَدَّت في السنوات الأولى من العدوان إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 48 % وارتفاع المستوى العام للأسعار مما خسر الأفراد ما يعادل أكثر من ثلثي دخولهم وتوقف جزء كبير من الأنشطة الاقتصادية وتوقف البرامج الاستثمارية الحكومية وجزء كبير من الاستثمارات الخَاصَّة وانسحاب أغلب المستثمرين الأجانب وخروج رأس المال الوطني إلى الخارج بحثاً عن بيئةٍ آمنة، كما توقفت صادرات النفط والغاز الطبيعي وتعليق التعهدات من المنح والقروض الخارجية وانخفاض الإيرادات إضافة إلى تكرار الأزمات الحادة في السيولة النقدية وفي الوقود والكهرباء.
وفي مقابل ذلك وفي ظل ثورة الـ21 من سبتمبر التي كانت وما تزال صمام أمان لحماية كُـلّ شبر في الأرض اليمنية والحفاظ على الثروات الاقتصادية ومواجهة العدوان والحصار بكل الإمْكَانيات المتاحة والممكنة تمكّنت الجبهة الاقتصادية الانتصار في الجانب الاقتصادي على كُـلّ المؤامرات، حَيثُ قامت حكومة الإنقاذ باتِّخاذ إجراءات ضرورية للحفاظ على العملة الوطنية من التدهور والنجاح في حدوث استقرار نقدي وذلك في تنفيذ قرار البنك المركزي منع التداول بالعملة المطبوعة غير القانونية وَأَيْـضاً من خلال تدشين البرامج الوطنية التنفيذية لإنعاش الاقتصاد الوطني في يناير من العام 2020م.
ويأتي هذا التدشين في ظل الانتصارات العسكرية والسياسية والاقتصادية من خلال تفعيل دور البنك المركزي اليمني في صنعاء من اتِّخاذ إجراءات تحمي العملة الوطنية وتحافظ على الاقتصاد الوطني من خلال تنفيذ إجراءات حازمة في السياسة المالية والنقدية للدفع بعجلة النمو والتنمية، هذا وقد عملت حكومة الإنقاذ بالتعاون مع المجتمع والقطاع الخاص في إطار ما هو متاح على استمرار إمدَادات السلع وَالخدمات الأَسَاسية في مستوياتها الدنيا إلى جانب حفظ الأمن ما ساهم في استمرار بعض الأنشطة الاقتصادية وبالتالي تأمين الحد الأدنى من فرص العمل وتدفق الموارد الاقتصادية.
سلم أولويات للبناء الاقتصادي
فكانت ثورة 21 سبتمبر تحولاً دراماتيكياً ضد الركود والتسلط والاستبداد والظلم والهيمنة الخارجية ومثلت منعطفاً تاريخيًّا في حياة اليمنيين لقيامها على أسس وطنية محدّدة الأهداف فكانت من أهم أهدافها الداخلية مكافحة الفساد السياسي والإداري والمالي والاقتصادي وتحقيق العدالة الاجتماعية لجميع اليمنيين وبناء تنمية حقيقية تتواءم مع أولويات واحتياجات الشعب اليمني وتنطلق من تحقيق الأمن الغذائي الذي بلغ أدنى مستوياته بفعل عدم امتلاك منظومة الحكم السابقة لأي مشروع اقتصادي وطني شامل وعدم وجود منظومة متكاملة للإصلاح المالي والإداري في مؤسّسات الدولة.
وظل الجهاز الإداري للدولة يعيش مرحلة كبيرة من تفشي الفساد المالي والإداري وقصور كبير في هياكله التنظيمية والتشريعية وكان ذلك متعمد ويخدم أجندات أعداء اليمن وعند قيام الثورة المجيدة في 21 سبتمبر كان من الضروري تصحيح ما خلفته الأنظمة السابقة من فشلٍ ذريع وخَاصَّةً فيما يتعلق بمؤسّسات الدولة المالية والإدارية والاقتصادية والتي في حال تم الاهتمام بها؛ بهَدفِ إصلاحها وتحسين أدائها سوف يكون لها دور كبير في تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة وتقدم وازدهار اليمن.
والتعبئة العامة ليست فقط في الجبهة العسكرية أَو السياسية أَو الاقتصادية أَو الثقافية بل تشمل الجبهة الإدارية في جميع مؤسّسات الدولة وتحسين وتطوير أداء عملها عن طريق تنفيذ توجيهات القيادة الثورية التي دُعي فيها إلى ضرورة تطهيرها من الكوادر الوظيفية الفاسدة والمندسة والتي تعملُ على عكس التوجّـه الثوري وتخدم وتنفذ أجندة أعداء اليمن في الداخل والخارج وخَاصَّة في ظل العدوان الغاشم والحصار الظالم على اليمن ويلزم في مواجهة ذلك إعداد خطة استراتيجية واقعية تهدف إلى حصر كافة الإمْكَانيات المتوفرة في البلاد ووضع مصفوفة عمل تنفيذية شاملة ووضعها تحت التصرفات الدفاعية للدولة وتشمل خطة التعبئة، تأسيس إدارة طوارئ وأزمات دائمة غايتها تحقيق التشغيل الأمثل لجميع الكوادر المالية والإدارية في مؤسّسات الدولة وفي جميع المجالات المالية والاقتصادية والزراعية والصناعية والتجارية.
ولضمان تحقيق ذلك يلزم بذل الجهود لإصلاح القطاع المالي والاقتصادي وعمل دراسة وتحليل للوضع الراهن واكتشاف نقاط الضعف والقوة وتحديد أبرز التوصيات والبدء بتنفيذها والبدء بعمل منظومة إصلاح مالي واقتصادي في معظم مؤسّسات الدولة مهمته تبني نهج التطوير المؤسّسي في عمل مؤسّسات الدولة ومراجعة لعدد من كبير هياكلها التنظيمية والتشريعية وتنمية الموارد المالية والبشرية وبالرغم من أن الإدارة العامة في كُـلّ مكان تقوم بالإصلاحات الإدارية وتسعى لاستمرار تحسين الأداء المالي والإداري فَـإنَّ الحكومات وبفعل الثورة التقنية الحديثة دفعت إلى التفاعل وتبني مفهوم الحكومة الإلكترونية والأفكار الإدارية الجديدة كذلك فَـإنَّ النجاح المُستمرّ الذي يحقّقه القطاع الخاص بابتكار مفاهيم وتقنيات إدارية جديدة حفز المختصين بالقطاع العام إلى إمْكَانية تطبيقها في الإدارات العامة في كثيرٍ من دول العالم.
* وكيل وزارة المالية، كاتب وباحث في الشأن الاقتصادي