ماذا تريدُ أمريكا؟..بقلم/ عبدالرحمن مراد
لم يعُــدْ خافياً على أحد موضوع السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، ربما أفصح ترامب عنها بكُلِّ وضوح، وربما قالت الأحداث والمواجهات في جزيرة القرم وفي أوكرانيا الكثير منها، وقد يجد اللبيب المتأمل في فكرة الحريات والحقوق التي كانت تشتغل عليها لتمرير مصالحها في العقود الخوالي من حين استطاعت التفرد بقيادة العالم منذ انهيار الاتّحاد السوفيتي إلى يومنا المشهود.
أمريكا دولة تتفرد بقيادة العالم منذ عقود، وهي من ترسم الخطوط العريضة للسياسات، وبما يتسق مع مصالحها ومصالح الاتّحاد الأُورُوبي على قدر من التوازن، والاتّحاد الأُورُوبي أصبح شريكاً في كُـلّ التموجات التي تحدث في العالم، وهو عبارة عن دول استعمارية كان لها تواجد استعماري في منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي فهو يرى امتداد فكرته الاستعمارية في هذه الدول بدليل أن إيطاليا التي كانت تستعمر ليبيا عادت إلى ليبيا بالرغم من غروب نجمها من تفاعلات المعادلة الكونية التي تديرها أمريكا، إلا أنها عادت لتقول: هذا إرث إيطاليا.
الفكرة الاستعمارية ما زالت تهيمن على الغرب، وحين خرج المستعمر من المنطقة خرج ظاهراً وظل يدير الشأن العام من خلال السفارات المتواجدة في الدول التي كان يستعمرها، ويتداخل مع علاقاتها ومصالحها إن كانت تضر بعلاقاته ومصالحه، هذه حقائق تفصح عنها السياسات والمواقف والتناولات الإعلامية التي كانت تحدث في المنطقة على مدى عقود خمسة من خروج المستعمر من المنطقة.
كان المستعمر يفرض قيوداً على الدول لا تكاد تتجاوزها، فهو في الخليج متواجد بشكلٍ علني، ووفق الاتّفاقات الموقعة فَـإنَّه لا يحق لدول الخليج صناعة قوة دفاع عسكرية قادرة على حمايتهم، بل يترك ذلك لبريطانيا وبالتنسيق مع أمريكا فكرة الحماية والدفاع، بل وصل الحال في دولة الإمارات أن تقوم الشركات الأمنية مثل بلاك ووتر بتوفير الحماية الأمنية للدولة، وحتى حماية المنشآت من ضمن مهام واختصاصها، وليس على الإمارات -التي يخضع كبار مسؤوليها لحماية الشركة-سوى الدفع، وشراء أحدث الآليات والمعدات العسكرية والتقنيات الحديثة وتسليمها للمعسكرات التي تديرها الدول الاستعمارية تحت أسماء متعددة غير مستفزة.
منذ بدأ الصراع بين الشرق والغرب في القرن العشرين، ومنذ بدأت حركات التحرّر والقوى الثقافية والسياسية بالاشتغال على فكرة الحرية والاستقلال والسيادة والوطنية حضرت أمريكا بكل إمْكَاناتها، تارةً باسم حقوق الإنسان، وتارةً تحت فكرة الحريات والديمقراطية في الدول والشعوب، وتارة تحت اسم محاربة النظم الديكتاتورية الغاشمة، وكانت حركة التوازن بين الشرق والغرب تفرض واقعاً جديدًا فيه القدر الكافي من التوازن، وبعد انهيار الشرق مطلع التسعينيات من القرن الماضي كان هَمّ أمريكا هو القضاء على حركات التحرّر السياسية والحركات الثقافية المستنيرة في الوطن العربي وفي الشرق كله والاشتغال على فكرة تعويم المفاهيم والمصطلحات حتى الوصول إلى التيه والضياع واستبدال كُـلّ ذلك بفكرة العولمة عن طريق التطبيقات والمنصات الإلكترونية العالمية.
إذ بعد أن تراجع المد الاشتراكي وتفرد النظام الرأسمالي بقيادة العالم لم يكن هناك من خيار سوى تمثيل وتجسيد أهداف جديدة تتسق والحال الجديد، فكانت العولمة من أبرز إفرازات التكنولوجيا الرقمية الذي سعى النظام العالمي الجديد من ورائها إلى فرض نموذجه الفكري والثقافي وذلك من خلال استخدام سلاح المعلوماتية والاقتصاد الرقمي والبرامج الإلكترونية المتنوعة والهادفة إلى صهر الخصوصيات وإشاعة هُــوِيَّة عالمية موحدة وبحيث يصبح الإنسان كائناً كونياً بالمطلق، وكان الهدف السياسي من وراء كُـلّ ذلك هو فرض ثنائية الخضوع والهيمنة على الشعوب، وتحويل الأوطان إلى أطراف تابعة للمركز، وتلك هي سياسة القطب الواحد القائم على نظم الرأسمالية، وهي نظم تسعى إلى تحويل العالم إلى أسواق استهلاكية مفتوحة للتجارة الحرة، وسوقاً للتقنيات والتطبيقات والبرامج، وهي تستغل حالة التفوق المعلوماتي ليكون بديلاً عن النظريات والأفكار والخصوصيات والأيديولوجيات والأديان والعقائد، ولم يقتصر الدور على تفكيك المقدس في خصوصيات الشعوب بل تجاوز ذلك إلى التأثير والتحكم وتغيير القناعات ودمج الثقافات في ركب المجتمع العالمي الشمولي.
ومن هنا تصبح فكرة الحرب على اليمن أكثر وضوحاً، فحركة الشباب المؤمن منذ نشأتها إلى أن أصبحت تسمى اليوم بحركة أنصار الله تهدّد مسار أمريكا في فرض فكرة الخضوع والهيمنة وهي تعمل على إعادة المسارات إلى المساقات الصحيحة، ولذلك حاولت أمريكا بالقوة العسكرية ولم تفلح، وبالحصار البري والبحري والجوي ولم تفلح، وتحاول التدخل في قوت كُـلّ فرد في اليمن وتمنع عن الناس السفر وتحاصرهم بالاحتياجات اليومية، وتمنع صرف المرتبات حتى تفصل الفكرة عن جسدها ولا نظنها سوف تفلح.
الموضوع أصبح خطيراً وقد أفصح عن نفسه خَاصَّة في الحوارات الأخيرة التي كانت المطالب فيها إنسانية بحتة وهي: صرف المرتبات، وفتح المنافذ، وحق الحصول على مقومات العيش للفرد والمجتمع، وهي حقوق مكفولة في العهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
والسؤال: ما الذي يجعل أمريكا تقف حائلاً دون الوصول إلى تلك الحقوق؟
جواب السؤال سبق بيانه في السياق، ولا خيار لنا سوى مقارعة الظالمين ففي ذلك خلاصنا من العبودية الاستعمارية الجديدة.