ديكتاتورية التخلّي (1)..بقلم/ منار الشّامي
لم تكُن الحربُ شاسِعة قديمًا، فالعالمُ البدائي لطالما بحثَ عَمَّا يجعلهُ مؤهلًا لخوضِ غمار معارك السيوف وكفى، بين طيّات القصص الواقعية آنفًا بدأت مراحلُ التوسِّع الأولى فنجِدُ في معاركُ الرسول صلى اللّٰه عليه وآله أنها كانت عسكرية شاملة للجانبِ الاقتصادي والجانبِ السياسي والجانبِ الاستخباراتي، بينما تخضع مُجملًا للإدارة الثقافية أثناء الحرب الإعلامية والتبادل المعرفيّ.
توسّعَ الانحراف الأول للأُمَّـة الإسلامية من تركِ يدِ عليّ عليه السلام بعد إقامة الحجّـة للولايةِ الشرعية له بعد رسول اللّٰه صلوات اللّٰه عليه وآله، ومنذُ ذلك الوقت غَدَتْ الثغراتُ تنتشر في رداءِ الأُمَّــة حتى أضحت هشّة ينهشُها العدوّ من كُـلّ جانب، وبذلك فَـإنَّ مراحل التولّي على التوالي والتي كانت عصرًا عن آخر تزدادُ سوءًا جعلت من نفسها محطّ أطماع للأعداء على حَــدٍّ سواء وبالأخصّ “اليهود والنصارى”، على أنّ اشتداد ضعفها يعني قوّتهم.
تحوّلت الحياةُ إلى شكلٍ آخر ما بين العقدين الثامن عشر والتاسع عشر للميلاد وبهذا فبدايةٌ أُخرى لعالمٍ آخر، ومفهومٍ يُدعى “العولمة”.
يُقالُ أنّ إنشاء “الشبكة العنكبوتية” أَو “الإنترنت وشبكات الاتصال” كان غرضهُ تجسُّسيًّا بين الولايات المُتحدة والاتّحاد السوفييتي بداية القرنِ التاسع عشر للميلاد، بيدَ أن تطوّرهُ آل بالأمرِ إلى تحوّلٍ واسع وكبير انتقل بنا إلى عالمٍ مُغايرٍ تماماً للعالمِ البِدائي، مُحقّقا نقلةً نوعيّة لا أطراف فيها كما تبدو، بل طرفًا واحدًا يُحرّكها كيفما شاء!
سابقًا كان العالمُ هادئًا، فالكلُّ يقتنعُ بما يقيسُ به الواقع، في الحربِ لا تهاون ففطرةُ الدفاع نضّاخة، بعد الإسلام ظهرتِ المُناظرات لتجذِبَ من كان بصير القلبِ ومستغلّ العقلِ إلى حضنه، لا تشعُّب في الطُرق الذهنيّة، ولا مؤثراتٍ تخلقُ اضطرابا في العقولِ، الثابتُ إن كان موقنًا ساندهُ ثباته.
الحربُ الناعمة، الدعاءات الإعلاميّة، الأقاويل المُثيرة للشبهات، جميعها في عالمٍ محدود كان يوقفها القرآن بلسانِ أحد الأخيار، وإلّا فانزلاق دائم في موقفٍ ظاهر، إنما كُـلّ شيءٍ محدودٌ بالواقعِ لا غير.
تفجّرت الشبكة العنكبوتية والعولمة والإنترنت والشبكات اللاسلكية والعالمُ الرقميّ في بدايةِ القرن العشرين، بأهداف شتّى لعدوٍ واحد ضِدَ فئاتٍ مُعيّنة بغرضٍ موحّد ينطلقُ من نفسِ العدوّ.
“فايسبوك”، “تويتر”، “يوتيوب”، “واتساب”، “قوقل”، “سوشيل ميديا”، “انستقرام”، “تيك توك”، وغيرها من البرامج الإلكترونيّة هي طبقٌ مطليٌّ بالذّهب يُقدّمُ بطريقةٍ مُهذبة لكلٍّ مِنّا، في مطعمٍ مشهور لشركاتٍ أجنبيّة يتواجدُ في يدكَ بشكلٍ كبير ولوقتٍ طويلٍ للغاية.
استلابٌ مُطلق للعقل، ووهمُ حياةٍ مؤقتة خلفَ عالمٍ رقميّ، تهدفُ البرامجُ المذكورةُ آنفًا إلى أن تجعل الإنسان خاليًا من عقائدهِ وروحيّته ويقينه، خالقةً لهُ انطباعاتٍ واهية بملابس برّاقة!
لم يكُن العالمُ الافتراضيّ مُزحة أَو طُرفة أَو محطّة تطورٍ رهيب، بل هو تَتَمدَدُ بشكلٍ بسيط يغزو بسرطانيته خلايا العقل، فتجدُ أنّك في هذا العالمِ الواسع ضائقٌ بالفعل، كُـلّ همّك أن تظهرَ مُفلترًا -مُتخليًا عن العالم الواقعيّ- بصورةٍ لافتة تجذبُ فارغيّ العقول، انحصارٌ في الذات ونرجسيةٌ لا تُحيطُك إلّا بجدارِ “الأنا”، تجعلُ مِنك في العالم الواقعي لا شيء، بينما أنت كُـلّ شيء في العالمِ الافتراضيّ!
تتخلّى رويدًا رويدًا عن قناعاتك، عن مسؤولياتك، عن أهداف خلقك، عن روحيّتك، عن كُـلّ ما مِن شأنهِ أن يؤذي عدوّك، وتضحو مشهورًا تحصدُ لايكاتٍ مؤلّفة، يُصفّقُ لك في محافلِ الغفلة بحرارة، وتشربُ مع أمثالِك نخبَ الغباءِ والتهاوي الواقعيّ، تتخلّى وتتخلّى وتتخلّى، حتّى تُصبحَ آخرًا لست على عهدك، مفضوحٌ بتفاصيلك للملأ، مكشوفٌ عارٍ برغمِ ارتدائك سترتك، لا هدفَ لك، ولا تستطيعُ إمضاء الوقت دون النقرِ المتواصل على شاشةِ هاتفِك!
ديكتاتوريةٌ تمّت دراستُها بشكلٍ واسع، تهدفُ إلى أن تجعلَ الإنسان خاليًا من كُـلّ شيء، عدا ما يُمليهِ عليه العدوّ المتربص خلف شاشات الاستخباراتِ الأجنبيّة التي ترضخُ طوعًا للصهاينة وأهدافهم.