مفارقات .. بقلم/ صالح مقبل فارع
أنصار الله هم الفئة الوحيدة التي ظُلمت كَثيراً في ظل نظام وحكم علي عبدالله صالح فقد شن عليهم ست حروب ضارية.
وطيلة 33 سنة من 1978م إلى 2011م لم يكن النظام يضطهد الإخوان أَو يمس شعرة منهم بل كان قدحهم هو المعلَّى أينما تواجدوا،
عندما بدأت مظاهرات الربيع العربي من تونس كان من الطبيعي أن يثور الإخوان ضد الأنظمة في كُـلّ الوطن العربي، أما في اليمن فقد كان وضع الإخوان داخل السلطة الحاكمة أقوى من الجناح الآخر -إن وُجِد- داخل السلطة نفسها، فكان مستغربا أن يثور الإخوان تحت نظام هو في أيديهم أَو يكاد، ولكنهم نزلوا إلى الميادين؛ لأَنَّ هناك ثوارًا حقيقيين يخوضون غمار الثورة الحقيقية ضد الهيـ منة الغربية وبالتالي ضد وكلائها في اليمن، ولذلك فقد نزل الإخوان ليحجزوا الثورة أَيْـضاً بعد أن قاموا بحجز النظام.
كان الرئيس في حينه علي عبدالله صالح يستغرب لخروجهم ضده بينما هو الذي مكّنهم من كُـلّ شيء وكان من الطبيعي أن يستغرب ذلك، ولذلك فقد ظهر له في الوقت الضائع إلى أي مدى كانوا متغلغلين في الحكم إلى درجة اختراق الدائرة الأضيق حوله وبالتالي تفجيره في حادثة النهدين الشهيرة في 13 / 6 / 2011م بعد معارك دامية على مدار أسابيع في الحصبة ومناطق أُخرى.
كان هذا مشهدا من المشاهد تشكل مفارقة كبيرة فهؤلاء الذين أخذهم على أكفّ الراحة ومكّنهم من كُـلّ شيء تعاملوا معه بهذه الطريقة وحاولوا إسقاطه بالقوة العسكرية وبالتصفية الجسدية رغم أنه لم يسبق أن أظهروا له طيلة فترة حكمه نصحًا حقيقيًّا أَو تصويبا مخلصًا، واضطر الرجل إلى تسليم السلطة لنائبه الذي هو دُمية في أيديهم وأيدي المخابرات البريطانية من خلفهم، وهو المشهد الذي تحدث عنه البردّوني قبل حصوله بحوالي عشرين سنة قائلا:
أزالت لندن الأولى وجاءت * بأُخرى غير قابلة الإزالة
يتاجر بالعروش وبالمباغي * تدير البابويّة والبقالة
تُرَئِّسُ نائبا يبدو جديدًا * وتكتب للرئيس الاستقالة
وبالفعل كان الرئيس قد وقع استقالةً كُتبت له، وكانَ النائب قد رأَّسته لندن الآخرة واستخدمته للحفاظ على هيمنتها وقتل المحاولات ما زالتها.
غادر الإخوان الساحات واستلموا ما كان في أيديهم من المواقع بينما استمر الثوار الحقيقيون في ثورتهم وهم لا يرون فيها ثورة ضد حاكم محلي بل ثورة ضد هيمنة غربية حقيقية حتى إذَا نضجت ثورتهم في الــ21 من ستبمبر 2014م واستطاعوا إسقاط الوكلاء الحصريين الجدد للهيمنة الغربية فاجأوا خصومهم قبل أنصارهم.
كان يتوقع منهم أخذ الحكام الذين سرقوا الثورة وتحالفوا مع السفارات إلى السجون ولكنهم مدّوا إليهم يد الحوار وتركوهم في القصور ووقعوا معهم اتّفاق السلم والشراكة، ولم يبحثوا عن أيِّ موقع في الحكومة، ولكن حلفاء السفارات ظلوا على سجيتهم في المكر والغدر حتى وصل بهم الحال إلى التخطيط لتفجير حرب داخل العاصمة صنعاء حُسمت بهزيمة العملاء في 21 يناير 2015م. ومع ذلك فلم يحاكم أحد وفرضت الإقامة الجبرية على الفارّ الذي لم يلبث أن عاود الفرار قبل أن يقوم أبناء السفارات باستدعاء أسيادهم الذين هبّوا لشن عدوان كبير على اليمن لم يسبق أن شهد له اليمن في التاريخ مثيلاً، هذه مفارقة أُخرى ودرس في النبل عندما يكون ثقافةً في مواجهة اللئام بكل ما يحملونه من سقوط وخسة ونذالة.
بدأ العدوان وبرز الصمود في مواجهته على أرقى المستويات من الاستبسال والبذل والعطاء والتضحية.
في هذه الفترة التاريخية كان الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح قد توارى تماماً عن المشهد تحت ضغط السفارات نفسها التي وجدت لها حلفاء أجدى منه نفعًا؛ ولأن لديه سابقة غاية في السوء في التعامل مع ثوار الحادي والعشرين من سبتمبر الذين أوسعهم تنكيلا وقتلا، وكان بديهيا ومتوقعا في كُـلّ الثورات أن يلقى حتفه أول يوم؛ لانتصار الثورة أسوة بالقذافي، أَو أن يُنفى إلى خارج البلاد كزين العابدين بن علي، أَو أن يجد طريقه إلى السجن مثل حسني مبارك، مع أن أيّاً من هؤلاء لم يشن على شعبه ستة حروب متتالية فقد بقي هذا الرقم القياسي حكرا عليه وحده، والمفارقة الأُخرى أنه لم يواجه مصير أي من هؤلاء الثلاثة نتيجة للثورة نفسها، فقد تعاملت الثورة معه بنُبل هو فارقة في حَــدّ ذاته.
ليس معتادًا أن تتسامح ثورة مع الحاكم الذي ثارت عليه، وأكثر الثورات سلماً تضع الحاكم في السجن أَو تنفيه من البلد، لكن هذه الثورة وبكل نبل ولأنها ثورة ضد الهيمنة الأجنبية وليست ضد الحاكم المحلي فقد تركت جلّادها السابق معززًا مكرماً في منزله وبأبهته وخدمه وحشمه كما لو كان في سدة حكمه.
وليس معتادًا أَيْـضاً أن تأتي هذه الثورة ضد الحاكم الذي سامها سوء العذاب وعندما تنتصر تجده وقد خرج من الحياة السياسية تماماً وتناساه الناس فتترفع عن الانتقام منه بل تتركه وشأنه، وهذا نبلٌ ما بعده نُبل، لكن أبعد من ذلك تحييه فَـإنَّ هذه الثورة أحيته بعد موات، وأنافت به بعد خمول، ومدت يدها إليه، فشاركته مقاليد الحكم ووجهت وجهها لمواجهة الغزاة وائتمنته على ظهرها، وهذا نُبل ومفارقة صارخة في قمة الوضوح.
والمفارقة الأعجب أنه ظل على مدار ثلاث سنوات تقريبًا من بداية العدوان وهو يفند كُـلّ الدعاوى التي سبق له أن حارب هؤلاء الثوار تحت عنوانها ويرد على كُـلّ الدعايات التي كان يشنها وبلسانه هو يكذب كُـلّ خطاب إعلامي سفك دم هؤلاء الثوار تحت غطائه.
وكانت مفارقة كبرى أَيْـضاً لو أنه تعامل مع الثوار والثورة بنبل ردًا على نبلهم فقط، وليس فضلا منه، وهم ضحاياه الحقيقيون، وقد رأى بعينه أن ربايا نعمته قد غدروا به وأحرقوه وأسقطوه رغم أنه لم يسبق منه يد سوء تجاههم.
ولكن للأسف الشديد فقد تحيَّن الفرصة بينما كان هؤلاء الثوار في ميدان المعركة يخوضون الملاحم في مواجهة الغزاة وعملائهم إذَا به يسل خنجر الغدر ليغرزه في قلب الثورة مستغلا ائتمانه على ظهرها ونُبل أبنائها وسمو أخلاقهم وعلو مقاصدهم ليلقى حتفه نتيجة الغدر لا الانتقام.
لقد ظل لسنوات طويلة يقتل الناس بزور تهمة هي التمرد على النظام بينما لم يكونوا متمردين ليثبت للأيام من لسانه أنهم لم يتمردوا عليه وإنما أُغْرِي بحربهم من قبل ربايا نعمته، ولكن المفارقة أنه أَيْـضاً قد لقي حتفه نتيجة تمردٍ حقيقيٍّ قاده على نظام يعترف هو بشرعيته ويعتبرها حجّـة عليه، وكادت الدنيا أن تكون دار جزاء، وقد صدق الأول حين قال:
ملكنا فكان العفو منا سجية * ولما ملكتم سال بالدم أبطحُ
ويكفيكم هذا التفاوت بيننا * وكل إناء بالذي فيه ينضحُ