أُمُّ أبيها..بقلم/ عفاف البعداني
الزكية، النقية، الطاهرة، البتول، الصديقة، المؤمنة، الرحيمة، العفيفة، كُـلّ صفات الدنيا لم تجتمع إلا عندها، كُـلّ مكارم الفضيلة ومحامد التربية وأصول الدين تبرق من جهة روحها النيرة، لتضيء حياة الأحياء كافة، من عتمة نفوسهم المظلمة، وتظهر علينا منذ ميلادها الأول كالشمس ساطعة لا تحتاج للبيان والتبيِّن؛ لأَنَّها جلية منذ أن وجدت على هذه الدنيا، هي بنت محمد -عليه أفضل الصلاة السلام-، أبوها الإنسان العظيم، وهي المرأة التي جسدت تلك العظمة بكونها الابنة الحنونة، والزوجة الطاهرة، والأم المجاهدة، أبوها الذي قال الله عنه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) فكانت هي البنت البارة والتي استحقت بأن تكون سيدة نساء العالمين، فضائلها عالمية شبيهة أبيها، الذي بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة وحمل هم أمته على عاتقه حتى وافاه الأجل، وهو لا يبرح إلا مذكراً أمته بالله، ويحذرهم من سخطه ويقربهم من محبته فكانت هي أَيْـضاً سيدة نساء الدنيا والجنة برحمتها وتعاظم رسالتها.
أحبها رسول الله ورأى فيها نعيم الحياة، وجنة الدنيا، رأى فيها الرأفة والمعية والأمان والحب وَالصبر وتحمل المسؤولية ما جعله يلقبها بأعظم لقب، أم أبيها، وجد فيها حنان الأُمهات وهو في عز يتمه، تشبيهٌ بليغ يقاوم المرء فيه أشد النوازل، تشبيهٌ يواجه كُـلّ متاعب الدنيا، ليفوز على المتاعب بتلك الفلذة الطاهرة، أية روحية عاشت فيها حتى يعنيها بكل ذاك الحب، يطمئن عليها ويداريها باللطف وكأنها طفلة وهي قد صارت أماً، فاق حبها على كُـلّ ذي محب، وعاشت مع أبيها دون أن تتركه لحظةً واحدة، تجسيد عال في كيفية تقديم حياة المرأة على مستوى متنامٍ من الرحمة والحب والرأفة تجاه حياة الرجل، حتى وَهو على فراش الموت يستعد للصعود وَإذَا به يبشرها بأنها ستكون أول من يلحق به، تبتسم لهذه البشرى وتحزن في نفس اللحظة؛ لأَنَّه لا يمكنها أن تصبر وَتعيش ولو ليوم واحد بلا أبيها.
هذا وميض قليل من عالمية فاطمة، هذا وهج ويبقى النور فيها مكتمل، هذا جزء والأجزاء متتابعة ولن تكتمل عند أي وصف بشري، لن يصل لمفهومها أحد، فمن بمقدوره إيجاز محاسن بنت رسول الله، من منا يجد بحروفه كمالية التحدث عن شمائل فاطمة، وَمن منا لا يريد أن يكون مثلها ولو على أقدام محروقة، بودنا والله، بل يستعر الشوق كالجمر في قلوبنا لنراها راضية عنا، ونرى في أنفسنا ما يرضينا، كُـلّ يوم نحب أن نرى ولو خُلقاً واحداً فينا، نتمنى أن نعيش تلك الحالة الإيمانية التي وصلتها وهي مع أبيها رسول الله، ومع زوجها علي- كرم الله وجهه-، ومع ابنيها سيدَي شباب أهل الجنة، نتمنى أن نلامس التراب الذي مشت عليه، ونقترب من البيت الصغير الذي كانت تسكنه، كم يبلغ طوله وكيف كانت تقضي أيامها مع الله.
أَبِوِسعنا فهمُ أن الجزءَ الذي في داخلنا هو من يحدّد المصير كله، ولا علاقة له بالأشياء غير المتاحة؟، نود أن نسألها كيف لنا أن نتأسى بها دون أن نتعثر، ربما أن الأمر يحتاج للكثير؟! أيحتاج للزهد للتضحية والإنابة للتربية، للإحسان، أم لها كلها وأكثر، وكم يعز علينا أن نبقى بعيدين ولم نصل، وَلكن حسبنا هو المحاولة، ما أجملنا ونحن نحاول كُـلّ يوم أن نكون فاطمة، لا بأس إن غرتنا الحياة، لا بأس إن وقعنا في شراك الخطيئة، كلنا معرضون، فالنفس أحياناً تعجز وتهون وتصحو على واقعٍ صعب لا يمكنها تجاوزه لكننا نحاول لا نتوقف، يحب الله هذا الإصرار متواجد فينا كُـلّ صباح وكل ليلة وكل لحظة من لحظات العمر، وأظن أن فاطمة لو كانت معنا لأحبت هذه المحاولات العصرية.
والبعض يعتقدون أنه لا عجب أن تكون فاطمة بهذه المزايا؛ لأَنَّ أباها نبي وليس بأي نبي إنه خاتم الأنبياء، وفعلاً صحيح أن البيئة لها الدور الأمثل والأسبق في كُـلّ التنشئة ولكن هذا لا يعني أنها تأخذ الدور بمجمله، فليست القرابة وحدها هي من تورث الأخلاق والقيم، ولكنه القلب نفسه، الروح نفسها، الطهر ربيب نفسه أينما حَـلّ وقع، الإنسان نفسه قبل كُـلّ شيء هو من يحدّد مصيره وتملي عليه فطرته، لا ننسى أن امرأة نوح كان زوجها نبياً وفي رعاية واصطفاء الله لكنها عاثت وأفسدت، وهنا يتبين لنا أن بنت رسول الله هي أكثر شخص جسد خُلق أبيها، ليس فقط؛ لأَنَّها ابنته؛ لأَنَّها ابنته نعم، وَلأنها فاطمة ولأنها الزهراء ولأنها الطاهرة، فسلام الله عليها وعلى أبيها ما أشرقت شمس علينا وحتى قيام الساعة.
وتأتي هذه الأيّام، علينا نحن أبناء اليوم من حظينا بسيرتها ولم نرها، لكننا بقدر الاستطاعة نريد أن نرى أخلاقها معنا، نسلط الضوء على كُـلّ تفصيل من تفاصيل حياتها، نتسمّى باسمها، وننهل من سيرتها ما نقتات به على مصاعب الحرب النفسي والمكاني والزماني مرة واحدة.
إننا نحاول في ذكرى ميلادها وكلّ يوم أن نحيي كُـلّ خلق عظيم تفضلت به على الدنيا، ونجد في أنفسنا من الحب ما يجعلنا نصحح مفهومية هذا التأسي، ليس مناص الأمر أن نلقب أنفسنا بالزهروات ولا بالزينبيات، المسألة أكبر من الاسم، الأمر يحتاج لجهد كبير في التربية، ليس بالأمر الصعب، لكنه أَيْـضاً ليس بالسهل كما يعتقده البعض، تهذيب النفس يحتاج منا للمجاهدة وَمتعلق بالكينونة، بالروح، ولا يؤخذ الإنبات من الاسم فقط.
وفضلاً لا أمراً لا تكثروا من ابتعاث الأسماء والمسمى الأصيل مفقود، كثيرة هي الأسماء، ولكن لا زلنا نجد الكثير من العادات التي تتنافى تماماً عن ما أمرنا الله به، فضلاً على ما كانت عليه سيدتنا فاطمة -عليها السلام-، لا زلنا نجد الفتاة مولعة باللبس الفاتن والذي يعري حيائها حتى تفقده تماماً في المناسبات والجامعات وحتى الأسواق، نجد الاقتدَاء الأعوج حين تأخذ المرأة وظيفة لا تناسبها، ولا تتلاءم قط مع قدرتها التي خلقها الله، نجدها تحشر نفسها لتزاحم عملاً ومكاناً لا يكون إلا لرجل، وهناك التصور الأهوج لحرية التصرف، لا زالت تظن أن اليوم العالمي للمرأة هو اليوم الوحيد المخصص لها، بينما الإسلام خصص لها كُـلّ الأيّام، حفظها صغيرة وهي في بيت أبيها لتكون أمانته، وحفظها شابة وهي في بيت زوجها ليكون مسؤولاً عنها، ورعاها كبيرة وهي بين أحفادها، سلسلة من الاهتمام عنيت به منذ نعومة أظافرها وحتى تفارق الحياة، فلا داعي لحرية ولا لتعاطف أكبر مما قدمه ديننا الإسلامي للمرأة، لنتدارك الأمر ونؤدي أدوارنا كنساء بكل ما أوتينا من هبات، نفهم حدودنا وكيف أن الإسلام جعل لنا قلباً رقيقاً، وبنفس الوقت بمقدوره تحمل آلام لا يمكن للرجل على قدر قوامته أن يتحملها.